28 أكتوبر 2024
بين فلسطين والممانعة ومقاومة التطبيع
وحدها الأنظمة الاستبدادية تعيد تكرار الدروس التي حفظتها عن ظهر قلب، واتخذتها مبرّراً لشرعيتها المزعومة، وضمانةً لاستمرارها. فعبر كل الحقب، وتعدّد أنماط الاستبداد، كانت القضية الفلسطينية، على الدوام، الشماعة التي تعلق عليها تلك الأنظمة دعايتها وإجراءاتها ضد خصومها في الداخل والخارج. عبر الادعاء الوهمي بالعمل من أجل فلسطين، يتم تجريم المعارضة الداخلية، وإسكات صوتها، كما يتم اتهام الأنظمة المنافسة بالتواطؤ والخيانة والتفريط. في حين يحظر على أصحاب القضية أنفسهم النطق باسمها، بحجة أنها قضية قومية، وتفرض عليهم كل أشكال الوصاية الممكنة.
حين انطلق العمل الفدائي، اتهم بأنه يسعي إلى توريط الأنظمة العربية في معركةٍ مبكرةٍ مع العدو الصهيوني، وحين تم تشكيل جيش التحرير الفلسطيني، جرى إلحاق وحداته الثلاث، عين جالوت والقادسية وحطين، ولاحقا بدر، بالدول المرابطة على أراضيها، في ظل تبعيةٍ شكليةٍ، لا قيمة حقيقية لها، لقيادة منظمة التحرير، بل إن العميد طارق الخضرا قائد قوات حطين المرابطة في سورية أصدر، عام 1983، البيان رقم واحد، مقلدا بيانات الانقلابات العربية، ومن على شاشة التلفزيون السوري، ليعلن الانقلاب على ياسر عرفات، في ظل خلاف القيادة السورية مع الزعيم الفلسطيني الراحل.
مبكّرا انتبه الفلسطينيون إلى ذلك، وإلى حجم التجاذبات العربية المحيطة بقضيتهم، والتي تحرفها نتيجة محاولات استغلالها العربية في الصراعات العربية الداخلية، وتمنعها بذلك من أن تكون قضية العرب المركزية الجامعة التي تسمو فوق الأهواء والخلافات، فرفعوا شعار استقلال القرار الفلسطيني، وأرادوا بذلك النأي بأنفسهم وقضيتهم عن زجّها في محرقة الخلافات العربية. وعلى الرغم من الانحراف الذي طرأ على استخدام هذا القرار، في مرحلةٍ متأخرةٍ من النضال الفلسطيني، حين تم تبرير التنازلات الفلسطينية باسمه، إلا أن جوهره المتمثل في إبعاد القضية الفلسطينية عن الصراعات العربية، يبقى صحيحاً على الدوام.
مناسبة هذا الحديث هو الضجة المفتعلة حول مؤتمر مقاطعة الكيان الصهيوني، الذي نظمه فرع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس، وكان لي شرف المشاركة فيه، وإدارة إحدى جلساته.
في اليوم الأول، وكما هو معلوم، وخلال الجلسة التي كانت تبحث في استراتيجية المقاطعة،
وبمشاركة نخبة من الباحثين المشهود لهم، اقتحم قاعة المؤتمر نحو عشرة أشخاص، لم يغادر أحد مكانه، واستأنف المؤتمر جلساته التي استمرت ثلاثة أيام، في حين انشغلت مجموعة المقتحمين بالتقاط الصور التذكارية على مدخل الفندق، يتوسطها علم كبير لسورية، وعلى جانبي الصورة علمان فلسطينيان صغيران.
كان يكفي لهذه المجموعة أن تنصت قليلا للنقاش الدائر، بل أن تقرأ اللافتة الكبيرة على مدخل القاعة، وفوق المنصة، والتي توضح طبيعة المؤتمر. لكن، بطبيعة الحال، لم تكن فلسطين وقضيتها ومقاطعة الكيان الصهيوني فيها هو ما يشغلهم أو ما جاؤوا لأجله، وحسبي هنا أن استذكر ما قاله الأصدقاء الأكاديميون التوانسة عن هذه المجموعة المعروفة في تونس باسم مجموعة "عشاق القذافي"، وأنه لم يُعرف لها أي نشاط سابق يتعلق بفلسطين وقضاياها، وكل ما يعرفونه عنها أنها تنظم اعتصاماً دورياً للمطالبة بإعادة فتح السفارة السورية في العاصمة التونسية. وأظن أن الأصدقاء التوانسة محقون في رأيهم هذا، بل إن باحثا تونسيا مرموقاً، قاتل سابقا في صفوف الثورة الفلسطينية، أشار من على منصة المؤتمر، حين سأله أحد المتداخلين عن المخاطر التي تواجه مقاومة التطبيع في تونس، فأشار إلى مثل هذه المجموعة الشاذة. ولعلي أضيف أنه لو كان هؤلاء على درايةٍ بسيطةٍ بالقضية الفلسطينية، لعلموا أن اقتحامهم قاعة المؤتمر قد تصادف مع الذكرى الأربعين لسقوط مخيم تل الزعتر، وتواروا خجلا مما فعله أصدقاؤهم سابقا.
لنتحدّث بصراحة، لا علاقة لهذه الضجة المفتعلة بفلسطين ولا بالمقاطعة، وأجزم، هنا، أن كل من ساهم بها لم يقرأ حرفاً عما قيل في المؤتمر، أو يعرف أسماء المشاركين فيه، وهو كله منشور على الموقع الإلكتروني للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وإذا أردنا أن نسمي الأشياء بمسمياتها، كان في وسع هؤلاء وغيرهم لو امتلكوا الحجة القوية أن يعلنوا معارضتهم أي موقف في شأن أي مسألة أخرى، من دون أن يلجأوا إلى لي عنق الحقيقة وإقحام فلسطين ومقاطعة الكيان الصهيوني فيها.
لا يجوز أولاً أن نكذب على الناس، فحبل الكذب في بلادنا، كما يقال، قصير، كأن نصوّر مؤتمراً أكاديمياً مناهضاً للتطبيع، ويهدف إلى دراسة استراتيجيات المقاطعة، بأنه مؤتمر تطبيعي خدمة لبعض الأجندات الإقليمية، ونتيجة لخلاف على الموقف من الربيع العربي والأزمة السورية، وهما أمران لم يُبحثا في المؤتمر، فإنه عار كبير يلحق بأولئك الذين روّجوا مثل هذه الأكذوبة، وهم يعلمون حقيقتها، ولعل المركز ينشر كل أوراق المؤتمر في الفترة المقبلة، والتي أظن أنها ستساهم في رفد حركة مقاطعة الكيان الصهيوني برؤى وأفكار تساهم في زيادة فعاليتها، وتمكّنها من مواجهة الإجراءات الصهيونية والغربية المضادة.
ما حدث في هذا المؤتمر الذي اختتم أعماله بنجاح كبير نموذج حي ومتجدّد لاستغلال القضية الفلسطينية خدمةً لأجندات بعض الأنظمة، تحت شعارات فقدت معناها ومدلولها، ولم تعد تحمل سوى رائحة الاستبداد والخداع وتزييف الحقائق، وأظن أنه آن الأوان لأجيال جديدة أن تعيد لشعار الممانعة مفهومه المقاوم فعلا للكيان الصهيوني، بمنع استغلال القضية الفلسطينية من خلال شعارات زائفة، وحيث المحكّ الحقيقي هو بالنضال الفعلي ضد العدو الصهيوني في داخل الأرض المحتلة، وبتصعيد المقاطعة في الخارج ضده، ومن ضمن ذلك يأتي هذا الجهد المثمر والمشكور للمركز العربي في تنظيم مثل هذا المؤتمر.
حين انطلق العمل الفدائي، اتهم بأنه يسعي إلى توريط الأنظمة العربية في معركةٍ مبكرةٍ مع العدو الصهيوني، وحين تم تشكيل جيش التحرير الفلسطيني، جرى إلحاق وحداته الثلاث، عين جالوت والقادسية وحطين، ولاحقا بدر، بالدول المرابطة على أراضيها، في ظل تبعيةٍ شكليةٍ، لا قيمة حقيقية لها، لقيادة منظمة التحرير، بل إن العميد طارق الخضرا قائد قوات حطين المرابطة في سورية أصدر، عام 1983، البيان رقم واحد، مقلدا بيانات الانقلابات العربية، ومن على شاشة التلفزيون السوري، ليعلن الانقلاب على ياسر عرفات، في ظل خلاف القيادة السورية مع الزعيم الفلسطيني الراحل.
مبكّرا انتبه الفلسطينيون إلى ذلك، وإلى حجم التجاذبات العربية المحيطة بقضيتهم، والتي تحرفها نتيجة محاولات استغلالها العربية في الصراعات العربية الداخلية، وتمنعها بذلك من أن تكون قضية العرب المركزية الجامعة التي تسمو فوق الأهواء والخلافات، فرفعوا شعار استقلال القرار الفلسطيني، وأرادوا بذلك النأي بأنفسهم وقضيتهم عن زجّها في محرقة الخلافات العربية. وعلى الرغم من الانحراف الذي طرأ على استخدام هذا القرار، في مرحلةٍ متأخرةٍ من النضال الفلسطيني، حين تم تبرير التنازلات الفلسطينية باسمه، إلا أن جوهره المتمثل في إبعاد القضية الفلسطينية عن الصراعات العربية، يبقى صحيحاً على الدوام.
مناسبة هذا الحديث هو الضجة المفتعلة حول مؤتمر مقاطعة الكيان الصهيوني، الذي نظمه فرع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تونس، وكان لي شرف المشاركة فيه، وإدارة إحدى جلساته.
في اليوم الأول، وكما هو معلوم، وخلال الجلسة التي كانت تبحث في استراتيجية المقاطعة،
كان يكفي لهذه المجموعة أن تنصت قليلا للنقاش الدائر، بل أن تقرأ اللافتة الكبيرة على مدخل القاعة، وفوق المنصة، والتي توضح طبيعة المؤتمر. لكن، بطبيعة الحال، لم تكن فلسطين وقضيتها ومقاطعة الكيان الصهيوني فيها هو ما يشغلهم أو ما جاؤوا لأجله، وحسبي هنا أن استذكر ما قاله الأصدقاء الأكاديميون التوانسة عن هذه المجموعة المعروفة في تونس باسم مجموعة "عشاق القذافي"، وأنه لم يُعرف لها أي نشاط سابق يتعلق بفلسطين وقضاياها، وكل ما يعرفونه عنها أنها تنظم اعتصاماً دورياً للمطالبة بإعادة فتح السفارة السورية في العاصمة التونسية. وأظن أن الأصدقاء التوانسة محقون في رأيهم هذا، بل إن باحثا تونسيا مرموقاً، قاتل سابقا في صفوف الثورة الفلسطينية، أشار من على منصة المؤتمر، حين سأله أحد المتداخلين عن المخاطر التي تواجه مقاومة التطبيع في تونس، فأشار إلى مثل هذه المجموعة الشاذة. ولعلي أضيف أنه لو كان هؤلاء على درايةٍ بسيطةٍ بالقضية الفلسطينية، لعلموا أن اقتحامهم قاعة المؤتمر قد تصادف مع الذكرى الأربعين لسقوط مخيم تل الزعتر، وتواروا خجلا مما فعله أصدقاؤهم سابقا.
لنتحدّث بصراحة، لا علاقة لهذه الضجة المفتعلة بفلسطين ولا بالمقاطعة، وأجزم، هنا، أن كل من ساهم بها لم يقرأ حرفاً عما قيل في المؤتمر، أو يعرف أسماء المشاركين فيه، وهو كله منشور على الموقع الإلكتروني للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وإذا أردنا أن نسمي الأشياء بمسمياتها، كان في وسع هؤلاء وغيرهم لو امتلكوا الحجة القوية أن يعلنوا معارضتهم أي موقف في شأن أي مسألة أخرى، من دون أن يلجأوا إلى لي عنق الحقيقة وإقحام فلسطين ومقاطعة الكيان الصهيوني فيها.
لا يجوز أولاً أن نكذب على الناس، فحبل الكذب في بلادنا، كما يقال، قصير، كأن نصوّر مؤتمراً أكاديمياً مناهضاً للتطبيع، ويهدف إلى دراسة استراتيجيات المقاطعة، بأنه مؤتمر تطبيعي خدمة لبعض الأجندات الإقليمية، ونتيجة لخلاف على الموقف من الربيع العربي والأزمة السورية، وهما أمران لم يُبحثا في المؤتمر، فإنه عار كبير يلحق بأولئك الذين روّجوا مثل هذه الأكذوبة، وهم يعلمون حقيقتها، ولعل المركز ينشر كل أوراق المؤتمر في الفترة المقبلة، والتي أظن أنها ستساهم في رفد حركة مقاطعة الكيان الصهيوني برؤى وأفكار تساهم في زيادة فعاليتها، وتمكّنها من مواجهة الإجراءات الصهيونية والغربية المضادة.
ما حدث في هذا المؤتمر الذي اختتم أعماله بنجاح كبير نموذج حي ومتجدّد لاستغلال القضية الفلسطينية خدمةً لأجندات بعض الأنظمة، تحت شعارات فقدت معناها ومدلولها، ولم تعد تحمل سوى رائحة الاستبداد والخداع وتزييف الحقائق، وأظن أنه آن الأوان لأجيال جديدة أن تعيد لشعار الممانعة مفهومه المقاوم فعلا للكيان الصهيوني، بمنع استغلال القضية الفلسطينية من خلال شعارات زائفة، وحيث المحكّ الحقيقي هو بالنضال الفعلي ضد العدو الصهيوني في داخل الأرض المحتلة، وبتصعيد المقاطعة في الخارج ضده، ومن ضمن ذلك يأتي هذا الجهد المثمر والمشكور للمركز العربي في تنظيم مثل هذا المؤتمر.