14 نوفمبر 2024
بين عسكرة الانتفاضة والمقاومة المسلحة
ثمّة فارق كبير بين عسكرة الانتفاضة الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في ممارسة المقاومة المسلحة، كشكلٍ من أشكال نضاله المشروع للتحرر من الاحتلال. إذ هنالك خلط واضح بين هذا الحق ومصطلح عسكرة الانتفاضة الذي أطلق في أثناء الانتفاضة الثانية وبعدها. وأصبح أي نقد يُوجه إلى عسكرة الانتفاضة كأنه اتهام للكفاح الفلسطيني المسلح، وهجوم عليه يهدف إلى الانتقاص من قيمته النضالية، بل واعتباره عائقاً أمام الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه، وتهديداً لأي هبّةٍ، أو انتفاضة جماهيريةٍ، يقوم بها. ويصبح أي تحذير من التأثيرات السلبية لعسكرة الانتفاضة، وكأنه تحذير من مزاولة أي شكل من العمل المسلح، بغض النظر عن طبيعته ومكانه وزمانه، بل قد يمتد هذا التحذير، ليصل إلى كل أشكال العنف، بما فيها وسائل المقاومة الشعبية التقليدية، من حجر وسكين وزجاجة حارقة، والتي تقف أمام النيران الإسرائيلية، ووصفها بالإرهاب.
الانتفاضة شكل متقدم من أشكال النضال الفلسطيني، تقوم بها الجماهير العريضة، وليس نخبها المسلحة، ويقتضي نجاحها مشاركة أوسع قطاع من النساء والرجال والشباب والشيوخ، من الشرائح الاجتماعية المختلفة، ومجمل القوى السياسية والوطنية والاتجاهات الفكرية المتفقة على هدف دحر الاحتلال. وتتضمن فعالياتها كل نشاط جماهيري معاد للاحتلال، ورافض وجوده، ومناهض لممارساته، من تظاهرات شعبية واعتصامات ومسيرات ومهرجانات وتشييع للشهداء ورعاية أسرهم، والاهتمام بالأسرى، وزيارة الجرحى، كما تشمل اشتباك الشبان مع الحواجز الصهيونية، ونقاط التماس مع مستوطنيه، وتنظيم لجان الحراسة لحماية القرى الفلسطينية من هجمات المستوطنين، وقطع الطرق وإعاقة الحركة عليها، إضافة إلى مقاطعة بضائعه ومنتجاته مقاطعة كاملة، وترك العمل في أسواقه، والامتناع عن دفع الضرائب والمخالفات والرسوم، وفضح المتعاونين مع العدو، وعزلهم في بيئتهم الاجتماعية، وإجبارهم على إعلان توبتهم علناً، كما تم في أثناء الانتفاضة الأولى، ويستلزم ذلك كله تشكيل قيادات محلية، لها صفة تمثيلية لمجتمعاتها، وعلى مستوى الوطن، تهتم بفعاليات الانتفاضة اليومية، إضافة إلى اهتمامها بتسيير الشؤون الحياتية اليومية، ضمن اقتصاد مقاوم وتكافل اجتماعي وتضامن المجتمع المحلي. يعززها ويشد من أزرها تضامن المجتمع الفلسطيني في الشتات، وتأييد الجمهور العربي، والسعي إلى تحقيق عزلة إسرائيل على مستوى العالم.
ما سبق يعني، بوضوح، أن الانتفاضة، شأن كل الهبّات الشعبية التي خاضها الشعب الفلسطيني،
منذ إضرابه الشهير سنة 1936، لا يمكن أن تنجح وتتقدم، وتحقق أهدافها، إلا بمشاركة جموع الشعب فيها. إنها تعني أن الشعب أخذ مصيره بيديه، وشارك كل فرد فيه، طليعته وقيادته، أو سبقها، في تقرير مصيره وإمساك زمام مستقبله ونضاله بيده، بعيداً عن الأروقة والدهاليز، وإن عمق المشاركة الشعبية، وانخراط كل الشعب في مختلف فعالياتها هما ما ستحددان مصيرالانتفاضة، وبذلك فقط يتمكن الجمهور العريض من تغيير الواقع المرير الذي دفعه إلى الخروج والثورة، ويرسم ملامح انتصاره، فهي انتفاضة شعب بأسره، وليست حراكاً لبعض نخبه.
في هذا السياق، عانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية من مظاهر سلبية أضعفت الحراك الجماهيري، وارتدت بسلبياتها عليه، فجعلت جمهوراً عريضاً ينسحب من الشارع إلى المنازل، مكتفياً بالدعاء بديلاً من المشاركة الفعلية في زخم الانتفاضة. وقد تجلت هذه الممارسات السلبية في ما أطلق عليها عسكرة الانتفاضة، والتي تمثلت بعض مظاهرها في مراحلها الأولى، في الاستعراض بالسلاح، وسط الحشود الجماهيرية، وإطلاق الرصاص في أثناء مراسم تشييع الشهداء، أو خلال فعاليات شعبية مشتبكة مع جنود الاحتلال بالحجارة، كأن يتم إطلاق بضع رصاصات على حاجز للعدو، في أثناء تقدم حشود جماهيرية باتجاهه. لاحقاً، تطور ذلك في بعض المناطق إلى تحكم النخب المسلحة في تسيير مجريات الحياة اليومية، وتدخلها في الشأن الاجتماعي للمجتمعات المحلية، ما أضعف الحراكات الجماهيرية الواسعة، وجعل قطاعات واسعة تنأى بنفسها عن الحراك، أو تكتفي بمتابعته من منازلها. وهو ما سهل القضاء على هذه المجموعات، بل يمكن القول، إن انتشار قوات الأمن الفلسطينية، بعد إعادة تشكيلها، وبالتنسيق مع قوات الاحتلال في مراحل الانتفاضة، وبداية العهد الجديد، حظي برضا قطاعات واسعة في حينه، رأت فيه حداً لبعض الانفلات الذي شهدته تلك الفترة، وهو الأمر الذي سهل على قوى الأمن، لاحقاً، القضاء على المجموعات المسلحة، بما فيها المقاومة منها.
وقد لجأ بعضهم، حين نقده ظاهرة عسكرة الانتفاضة، إلى إلحاق أي عمل نضالي مسلح ضد الاحتلال فيها، فغدا نقد ظاهرة عسكرة الانتفاضة، أي إضفاء مظهر عسكري على فعالياتها ونشاطاتها، نقداً لمفهوم المقاومة بأسرها، وإسقاطاً لها من كونها إحدى وسائل النضال الرئيسية المتاحة والمشروعة للتحرر من الاحتلال. إن استخدام السلاح إذا دعت الضرورة له يجب أن يكون بعيداً عن أماكن فعاليات الانتفاضة الجماهيرية، وهو، في كل الأحوال، ليس بديلاً لها، وإنما مساعد لها، ومشعل شراراتها المتعاقبة، ووسيلة لمعاقبة العدو في عمق مراكزه، كلما ارتكب مجزرة جديدة بحق المدنيين. وهي، في مجمل عملها، تستهدف قواته العسكرية ومستوطنيه الذين يجب ردع اعتداءاتهم المسلحة على القرى والتصدي لها، كما يمكن أن تستخدم القوة في حالة الدفاع عن النفس، وضد حملات اعتقال الخلايا السرية، بعد إعطاء الأولوية لتجنب الاشتباك هنا، عبر إعاقة تقدم قوات العدو، من خلال حراك جماهيري، يتيح للمجموعة المسلحة الانسحاب أو الاختباء. وغني عن القول، إن هذه المجموعات الفدائية يجب أن تكون سرّية، وأن لا تظهر بسلاحها للعلن، وأن تكون بعيدة عن فعاليات الانتفاضة اليومية، ولا تتدخل فيها، فهم جنود مجهولون، يعملون في الخفاء وبنكران للذات، بعيدين كل البعد عن أي مظاهر استعراضية.
من نافلة القول، إن أحد المخاطر الكبرى التي تتهدد الانتفاضة الحالية يكمن في إحلال النخب المسلحة مكان العمل الجماهيري الواسع، المشارك والمحرك لمختلف نشاطاتها، إذ يسهل حينها عزل هذه النخب ومطاردتها، والقضاء عليها، في حين أن العدو لن يتمكن، مهما بلغت قوته، من عزل جمهور شعب كامل، مستعد للتضحية، أو القضاء على انتفاضته.
الانتفاضة شكل متقدم من أشكال النضال الفلسطيني، تقوم بها الجماهير العريضة، وليس نخبها المسلحة، ويقتضي نجاحها مشاركة أوسع قطاع من النساء والرجال والشباب والشيوخ، من الشرائح الاجتماعية المختلفة، ومجمل القوى السياسية والوطنية والاتجاهات الفكرية المتفقة على هدف دحر الاحتلال. وتتضمن فعالياتها كل نشاط جماهيري معاد للاحتلال، ورافض وجوده، ومناهض لممارساته، من تظاهرات شعبية واعتصامات ومسيرات ومهرجانات وتشييع للشهداء ورعاية أسرهم، والاهتمام بالأسرى، وزيارة الجرحى، كما تشمل اشتباك الشبان مع الحواجز الصهيونية، ونقاط التماس مع مستوطنيه، وتنظيم لجان الحراسة لحماية القرى الفلسطينية من هجمات المستوطنين، وقطع الطرق وإعاقة الحركة عليها، إضافة إلى مقاطعة بضائعه ومنتجاته مقاطعة كاملة، وترك العمل في أسواقه، والامتناع عن دفع الضرائب والمخالفات والرسوم، وفضح المتعاونين مع العدو، وعزلهم في بيئتهم الاجتماعية، وإجبارهم على إعلان توبتهم علناً، كما تم في أثناء الانتفاضة الأولى، ويستلزم ذلك كله تشكيل قيادات محلية، لها صفة تمثيلية لمجتمعاتها، وعلى مستوى الوطن، تهتم بفعاليات الانتفاضة اليومية، إضافة إلى اهتمامها بتسيير الشؤون الحياتية اليومية، ضمن اقتصاد مقاوم وتكافل اجتماعي وتضامن المجتمع المحلي. يعززها ويشد من أزرها تضامن المجتمع الفلسطيني في الشتات، وتأييد الجمهور العربي، والسعي إلى تحقيق عزلة إسرائيل على مستوى العالم.
ما سبق يعني، بوضوح، أن الانتفاضة، شأن كل الهبّات الشعبية التي خاضها الشعب الفلسطيني،
في هذا السياق، عانت الانتفاضة الفلسطينية الثانية من مظاهر سلبية أضعفت الحراك الجماهيري، وارتدت بسلبياتها عليه، فجعلت جمهوراً عريضاً ينسحب من الشارع إلى المنازل، مكتفياً بالدعاء بديلاً من المشاركة الفعلية في زخم الانتفاضة. وقد تجلت هذه الممارسات السلبية في ما أطلق عليها عسكرة الانتفاضة، والتي تمثلت بعض مظاهرها في مراحلها الأولى، في الاستعراض بالسلاح، وسط الحشود الجماهيرية، وإطلاق الرصاص في أثناء مراسم تشييع الشهداء، أو خلال فعاليات شعبية مشتبكة مع جنود الاحتلال بالحجارة، كأن يتم إطلاق بضع رصاصات على حاجز للعدو، في أثناء تقدم حشود جماهيرية باتجاهه. لاحقاً، تطور ذلك في بعض المناطق إلى تحكم النخب المسلحة في تسيير مجريات الحياة اليومية، وتدخلها في الشأن الاجتماعي للمجتمعات المحلية، ما أضعف الحراكات الجماهيرية الواسعة، وجعل قطاعات واسعة تنأى بنفسها عن الحراك، أو تكتفي بمتابعته من منازلها. وهو ما سهل القضاء على هذه المجموعات، بل يمكن القول، إن انتشار قوات الأمن الفلسطينية، بعد إعادة تشكيلها، وبالتنسيق مع قوات الاحتلال في مراحل الانتفاضة، وبداية العهد الجديد، حظي برضا قطاعات واسعة في حينه، رأت فيه حداً لبعض الانفلات الذي شهدته تلك الفترة، وهو الأمر الذي سهل على قوى الأمن، لاحقاً، القضاء على المجموعات المسلحة، بما فيها المقاومة منها.
وقد لجأ بعضهم، حين نقده ظاهرة عسكرة الانتفاضة، إلى إلحاق أي عمل نضالي مسلح ضد الاحتلال فيها، فغدا نقد ظاهرة عسكرة الانتفاضة، أي إضفاء مظهر عسكري على فعالياتها ونشاطاتها، نقداً لمفهوم المقاومة بأسرها، وإسقاطاً لها من كونها إحدى وسائل النضال الرئيسية المتاحة والمشروعة للتحرر من الاحتلال. إن استخدام السلاح إذا دعت الضرورة له يجب أن يكون بعيداً عن أماكن فعاليات الانتفاضة الجماهيرية، وهو، في كل الأحوال، ليس بديلاً لها، وإنما مساعد لها، ومشعل شراراتها المتعاقبة، ووسيلة لمعاقبة العدو في عمق مراكزه، كلما ارتكب مجزرة جديدة بحق المدنيين. وهي، في مجمل عملها، تستهدف قواته العسكرية ومستوطنيه الذين يجب ردع اعتداءاتهم المسلحة على القرى والتصدي لها، كما يمكن أن تستخدم القوة في حالة الدفاع عن النفس، وضد حملات اعتقال الخلايا السرية، بعد إعطاء الأولوية لتجنب الاشتباك هنا، عبر إعاقة تقدم قوات العدو، من خلال حراك جماهيري، يتيح للمجموعة المسلحة الانسحاب أو الاختباء. وغني عن القول، إن هذه المجموعات الفدائية يجب أن تكون سرّية، وأن لا تظهر بسلاحها للعلن، وأن تكون بعيدة عن فعاليات الانتفاضة اليومية، ولا تتدخل فيها، فهم جنود مجهولون، يعملون في الخفاء وبنكران للذات، بعيدين كل البعد عن أي مظاهر استعراضية.
من نافلة القول، إن أحد المخاطر الكبرى التي تتهدد الانتفاضة الحالية يكمن في إحلال النخب المسلحة مكان العمل الجماهيري الواسع، المشارك والمحرك لمختلف نشاطاتها، إذ يسهل حينها عزل هذه النخب ومطاردتها، والقضاء عليها، في حين أن العدو لن يتمكن، مهما بلغت قوته، من عزل جمهور شعب كامل، مستعد للتضحية، أو القضاء على انتفاضته.