يُواصلُ هؤلاء تمشيط الكورنيش البحري ذهاباً وإيابا. بلّل العرق ثيابهم. تداخلت الروائح في أنوفهم، حتى أضاعوا رائحة البحر. أما هو، فيسترق النظر إلى هذا المكان، من منظار ذكرياته. تخاله يضع حقيبة عند الباب، كأن "نيويوركه" على عتبة نزاع أهلي. غالباً ما تغلبه عاطفته، ويخشى ألا يكون جاهزاً لموافاتها، إذا ما ألحّت عليه. بيروت عشيقته رغم الأوساخ التي تطفو على جسدها. أما نيويورك، فاختارها بالمنطق. عروسٌ مثالية، جميلة ومرتبة. لا غبار عليها. كيف لا يحبها؟ حياتهما هانئة. لا جنون فيها. يستعرض مفاتنها كلّما اجتاحته الرغبة. يهدأ قليلاً قبل أن تعاوده الحالة.
بيروت جميلة وداهية. ربطت بعضنا بحبل سرّي متين. تخشى أن تموت وحيدة. لا تتوقف عن سرد القصص. وما أكثرها. قضم الموت معظم عناوينها، لكنها لا تزال على قيد الحياة. اختار المنطق، ورحل إلى حياةٍ مرتبة تضعك على سكة تقودك إلى مستقبل واضح، لا مفاجآت فيه، بعد ما حولته بيروت إلى قطّة بسبع أرواح. ينجو من موتٍ محدق فيخسر إحدى أرواحه. بقيت واحدة قرّر أن يغادر بها إلى ما وراء البحار. في ذلك المكان لا حاجة إلى كثرتها. واحدة تكفي.
يُغازل بحر نيويورك ونورسه. يرتّب المشهد تماماً. موسيقى الجاز في الخلفية. يصنعُ جزيرته. لكنه لا يتأخر في إضافة عشيقته بيروت، ليسقط من برجه إلى برجها. يلتقي بناسها الذين بات يحبهم جميعاً، رغم ثقل دم بعضهم.
لن ينجو من عشيقته، هو الذي يحلم بعشائهما سوياً. حضّر ثيابه للمناسبة. ينتظر التوقيت المناسب فقط. قد يتأخر قليلاً لكنه سيأتي حتماً. ربما تتمناك بيروت متسكعاً بين أزقتها، لكن روحك في خطرٍ معها. وهي لا تريد ارتكاب المزيد من الحماقات بحق من أحبوها.