بين بلدين شقيين

07 سبتمبر 2014
التدقيق اللغوي عمل هام، رتيب وخطير (geety)
+ الخط -
اشتغلت في التصحيح اللغوي عدة سنوات. يتكون قسم التصحيح من نظارات سميكة وهالات سوداء تحت العيون. مصححون يقضون أعمارهم وهم يسخرون من الكتّاب والصحافيين الخطّائين دائماً. كان رئيس القسم يعلق من فوقه آية "فبصرك اليوم حديد"، ومع ذلك سيخونك البصر لأن "المَدام" على التلفون، وتقول لك "ابنك الصايع لم يرجع حتى اللحظة.. وين ابنك؟".

يبهدل الرجل زوجته، ويتوعد ابنه الغائب حين يعود إلى البيت، بأنه سيضربه بالشبشب حتى يبول على نفسه. ثم يعود المصحح إلى القراءة، و"يفشق" عن سطر لتقع الكارثة صباح اليوم التالي.

الدولة تحتفل بتدشين أفضل ستاد رياضي في الشرق الأوسط، لكن لأن حرف الضاد على صف مفاتيح الكمبيوتر يقع فوق الشين مباشرة، خرجت العبارة: تحتف بتدشين أفشل ستاد رياضي في الشرق الأوسط. كان ذلك أول كابوس، تلته محاضرة من مدير التحرير بعد خصم يومين راتب وتنبيه لثلاثة مصححين وقعوا على البروفة بكلمة "شوهد". ودائماً يكون السؤال للمصحح "يا أخي أنت وين عينيك؟"، وهذا سؤال وجيه في الواقع!

أين هما عيناي؟ غير أن أكثر وصف أثار سخريتنا هو مديح مدير التحرير: أنتم فلتر الجريدة. لطالما كنا ننادي بعضنا "إنت وين يا فلتر، أو مرحبا أبو الفلاتر". كلما استيقظتُ صباحاً أنتظر حتى الظهيرة، إذا تلفن أحد لي من الجريدة علمت أن حرفا طار أو حطّ في غير مكانه، أحد المصححين كان يفلتر النصوص كأنه يراقب مذبحة وحيداً في العالمين، فتكون النتيجة مثلاً أن إسرائيل مدعومة في أميركا من "لوبٍ" صهيوني. يعني بالقياس يمكن القول "استمعتُ هذا الصباح لأغنية للمغنية نانسٍ عجرم". كنت الأكثر تفلتاً من مسطرة التصحيح، مستنداً إلى عبارة "الصحيح لا يصحح"، وإلى حكاية مؤدب (يعني معلّم) ابن الخليفة الأموي، وخلاصتها أن الولد كان يظن أن كل الناس يخطئون في اللغة، وبعد تخرجه على يد المؤدب قال، إن كل الناس يقولون الصح. ولكني وقعتُ ولم يسمّ أحد عليّ. أبلغوني أنني مطلوب مطلوب مطلوب لمدير التحرير الذي يقع مكتبه عند غيمة على ارتفاع منخفض.

- تفضل. هذا مدير التحرير، وقد كان يراقب الفاكس الذي تدلى منه شريط الورق طويلاً.

- كنت أريد أن أقول لحضرتك.

قصّ المدير ورقة الفاكس الأخيرة بدربة.

- لتقول لحضرتي ماذا؟

- ليس دفاعاً ولا إنكاراً للخطأ.

- والله لا أريد الشك أنك رجل محترم، في المقابل لا أريدك أنت أن تشكّ في ذلك.

- أعرف ذلك يا أستاذنا.

- لا تعرف. من أين ستعرف؟ من المؤكد أنك بعد كل هذه السنين لا تعرف أن المباحثات تجري بين بلدين شقيقين مش بلدين شقيين. هذان بلدان يا أستاذ لا بائعا فلافل.

- حاشا لله.

- أهااا.. تصدق؟ بشرفي وكأنك كنت موجوداً معي! هذا ما قلته أنا حرفياً لمسؤول الداخلية. أنا أيضاً قلت له "حاشا لله"، حين سمعت منه كلاما، حاشا لله أن تسمعه جنابك. هل انتزع أحد منك كوب الشاي، وقال لك تفضل واعتذر لسفيري بلدين ارتأى سعادتك أن يكونا شقيين؟ هذه ليست مهمتك. أنت فقط نم قرير العين، وكلنا من مجلس الإدارة حتى رئاسة التحرير نعمل في خدمتك. في المرة القادمة أرجو تثقل العيار. أريد منك عبوة ناسفة تنتقيها بعناية.

تحول وجهي إلى عجينة.

- كأنني يا أستاذ أحضّر عبوات ناسفة لا سمح الله! كأنني أسعى إلى الوقوف في هذا الموقف.

- إنها المسخرة يا سيدي! وخصوصاً في قضايا تقف على رأس إبرة، واحنا مش ناقصين. سعادتك وقعت على هذه المصيبة "شوهد"، شوف، شوف أليس هذا توقيعك؟

- نعم توقيعي.

- أحاول أن أفهم منذ الصباح كيف لإنسان بالغ عاقل راشد يحق له الانتخاب، والترشح، والحصول على رخصة قيادة، أن يخطئ في كلمة واضحة أكبر من الصرماية. ركل المدير بقدمه سقف المكتب، وببطء كان الهلالان الأسودان تحت عينيّ يصعدان وينفلشان ويسدلان ستارة لا لون لها، بينما الصدى يتردد في عظامي: أكبر من الصرماية، أكبر من الصرماية. 

المساهمون