بين الهوية والترجمة

27 يناير 2020
مقطع من لوحة لـ محجوب بن بلة/ الجزائر
+ الخط -

لعلّ أوّل ما ينمّ عن الوعي بالهوية في الفكر البشري تلك العبارة الشهيرة المأثورة عن سقراط: "اعرف نفسَك بنفسِك"، التي يظهر لي منها أنّ سقراط قد انتبه إلى أنّ الهوية لا يُمكن إلا أن تَبرُزَ فرديَّةً.

ولعلّ مَردّ اقتناعي هذا يُفسِّرُه المثال التالي: لو تخيَّلْنا توأميْن يكونان قد عاشا معاً في الوسط نفسِه، وفي ظروف متماثلة جدّاً، فممّا لا مِراء فيه أنْ يختلف أحدهما عن الآخر في التفكير والسلوك والاقتناعات، وفي أمور أخرى كثيرة، أي أن يكون كلُّ واحد منهما مُستقلاً بهويته، وهو ما ينفي عنهما الكلية المتماسكة، التي قد يدَّعيها بعضهم.

ولا يخفى أن كثيرين يُعمِّمون مفهومَ الهوية، فيزعمون أنه يَشمل شعوباً أو أمماً أو جماعات مُؤكِّدين أن لها هويَّةً واحدة. ولا غرو أنّ القول بذلك يُعبِّر عن نظرة غير واقعية، ويَعْني حصر أولئك المختلفين والمتنوّعين في قالَب واحد يُنمِّطهم على أساس الانتماء، بينما لا يمكن للهوية إلا أن تتعدَّدَ بتعدُّد الأفراد، وأن تكون في تحوُّل مستمر، بمعنى أن لها سيرورة، لا تفتأ تُغنيها بتجارب تتنوَّع تنوُّعَ الوسائل التي تُيسِّر للإنسان الوعي بذاتِه وبصيرورته.

ويتهيَّأ لي أن المترجِمَ أكثرُ الأدباء تفاعلاً مع قضية الهوية ومعايَشةً لإشكالاتها، ذلك أنه يجد نفسَه تتعامل مع هوية (كتابة) أخرى تختلف عن هويته في أمور كثيرة، تأتي اللغة على رأسها بحمولتها الثقافية، مع ما يقترن بها من قِيم ورؤية للعالَم وعادات، يكون عليه أنْ يعيَها، وأن ينجح في الرسوّ بها سالمة على ضفاف الثقافة الحاضنة.

ويبدو أن الهيرمينوطيقي الألماني شلايرماخر انتبه إلى الأزمة التي يتخبّط فيها المترجِم مُبكِّراً، في بداية القرن التاسع عشر، في رصده طريقتيْن في الترجمة؛ بقوله: "في رأيي، هناك طريقتان فقط؛ إمّا أنْ يَدَع (المترجِمُ) الكاتبَ في أقصى راحةٍ ممكنة، ويَعمل على أنْ يَنتقلَ القارئُ إلى اللقاءِ به، وإما أنْ يَدَعَ القارئ في أقصى راحةٍ ممكنة، ويَعمل على أنْ يَنتقل الكاتبُ إلى لقائه". وفي كلتا الحاليْن يكون مُنتَج المترجِم تحكُّماً في هوِيَّتين عبر تغليب إحدى الطريقتيْن: إما التوطينية وإما التغريبية في نسج ترجمته.

لذلك يعيش المترجِمُ التوزَّع بين أنْ يكون مؤلِّفاً ثانياً للعمل بِمُنجَزِه في ثقافة الوصول؛ أي أن يَكون ذاتَه، وبين أنْ يكون مجرَّد وسيط أو صدى لآخر. ويعمِّق هذا المأزق لديه مَوقعُه، الذي تحدَّثنا عنه في مقال سابق، والذي عرَّفه الفيلسوف جيلْ دُولوز بـ"التنسيق"، ومعناه الوجود "في الوسط، فوق خط التقاء بين عالم داخلي وعالم خارجي"، أي على الحدود بين الخارج والداخل، بين ثقافة وافدة وثقافة مُضيفة، الشيء الذي يُفقِده الكلّيةَ المتماسكة، التي تصنع له هويّة مستقلّة وقائمة بذاتها.

وللإضافة، فإن المترجِم يُكابد النظرةَ الدونية إليه، وهي نظرة متفرِّعة عن النظرة إلى عمله، تلك النظرة المترتّبة عن التمييز بين الأصل والنسخة أيضاً؛ فالمعروف أنَّ المؤلِّفَ يُنسَب إليه العملُ الأصل، ويكون محل التقدير والتنويه باعتباره مُبدعاً، بينما يُلحَق المترجِم بالنسخة، أي بالمرتبة الثانية المتَّهمة بالنقص، والتي تُتَّهم بالفشل في مُضارعة أصلها دوماً، لأنها لا تعدو أن تكون مجرّد تذييل عليه، بل ملحَقة به، وهذا ما ينتزِع من إعادةِ الكتابة استقلاليَتَها، فتُعْدي مُنتِجها، أي المترجِم.

زِدْ على هذا الارتياب الدائم في عمل المترجِم، الذي إذا لم يُنظرْ إليه بصفته خائناً، وإذا لمْ يُتَّهمْ بإدخالِ قِيَمٍ غريبة على ثقافته، وإسهامِه في زحزحة هويَّتها، فإن عمَلَهُ يُنتَقَصُ منه بدعوى أنه عمَلٌ آليٌّ، لا شخصيّة فيه لصاحبه، وبكونه شبَحاً، بسبب البروز الباهت لاسمه وللعلامات الدالة عليه في غلاف العمل والهوامش وغيرها، دون إغفال إسهام النقد في التنقيص من عَمله بعدم الاكتراث به، أي بالغبْن النَّقدي من قِبل الدارسين والقُرَّاء أيضاً. ناهيك عن عيش المترجم متوجِّساً من الكلمات والعبارات والصُّوَر واحتمالِ خيانتها إيَّاه، أو عبر مكابدته قلقَ الفشل في القبض عليها.

دلالات
المساهمون