05 يونيو 2017
بين الأبوية والربحية
تعرّض النظام الأبوي العربي لنقدٍ لاذع، على مدى عقود، من المثقفين الحداثيين العرب، إذ عزوا إعاقة التحديث في الوطن العربي إلى إعادة إنتاج البنى الأبوية سياسياً واجتماعياً. وعلى الرغم من أن بعضهم يقرّ بأن هذا النظام الأبوي ليس تقليدياً بالكامل، وأنه خضع لنوع من التحديث البيروقراطي والقانوني، بفعل الاستعمار وتوسع الرأسمالية، حيث اختلطت الأبوية بالتبعية للمركز الرأسمالي، وما تستلزمه من تحديثات، إلا أنهم يؤكّدون أن البنى التقليدية توسعت، وأن هذا النظام امتداد للتشكيلة القبلية القديمة، ولمفهوم الأسرة، بسبب التراتبية والتوزيعية التي تميّزه. وإذا كانت الأبوية العربية الحديثة تُلزِم الناس بالطاعة والخضوع، فإن الخضوع لا يخلو من منافع تجعله مستساغاً، فتساوق الأبوية مع أنماطٍ من "اللا إنتاج" الاقتصادي، في إطار الحالة الريعية، جعلت الاتكال على المكاسب التي توزّعها السلطة الأبوية سائداً.
في دول الخليج، وفي دولٍ عربية أخرى، لا يهيمن نمط رأسمالي للإنتاج، بل إن إنتاج النفط ليس إنتاجاً بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو يُستخرَج ويُصدَّر مادةً خاما. من خلال التحكّم بالنفط وعوائده، لعبت الدولة الدور الرئيسي في توزيع الموارد، وصارت وسيطاً بين مجتمعها والنظام الرأسمالي العالمي، عبر تسلمها الريع وإنفاقه، فيما أصبح أفراد المجتمع متّكلين على التسهيلات والخدمات التي تقوم بها الدولة، ومعتمدين على "الحماية الأبوية". حصل توزيع الريع على المكونات الاجتماعية، من خلال التوظيف في القطاع الحكومي، وتقديم الخدمات الأساسية بالمجان، والتوسّع في الإعفاءات الضريبية وأشكال الدعم المختلفة للأفراد والقطاع الخاص، المتكل بدوره على الإنفاق الحكومي.
سمح التحديث القائم على وفرة الريع النفطي بنشوء شريحةٍ مستفيدةٍ ومهيمنةٍ على الاقتصاد المحلي، تراكم الأرباح، مستخدمةً علاقتها بأجهزة الدولة، والتسهيلات المقدمة لها، من دون الحاجة إلى دفع ضرائب على مداخيلها أو أرباح شركاتها، كما سمح بنشوء طبقةٍ وسطى واسعة، تستفيد من الفوائض المالية، وتحتويها الدولة من خلال عمليات التوظيف والمِنَح
والهبات، وأشكال التوزيع المختلفة. تُلزم الأبوية الريعية العربية الناس بالطاعة، وتعزّز البنى التقليدية في المجتمعات العربية، لكنها تكسب ولاء الناس أيضاً عن طريق الهبات والعطايا، في تجسيدٍ للذهنية القبلية الساعية لإكرام الرعايا من خلال الإنفاق.
تتقاطع هذه الأبوية الريعية مع المفاهيم الحديثة في عنوان "دولة الرفاه". بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى منتصف القرن العشرين، ثم السبعينيات من ذلك القرن، تطوّر مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية أو دولة الرفاه، وهو مفهومٌ يعبر عن استخدام الدولة سلطتها في تخفيف تفاعلات قوى السوق، من خلال ضمان حد أدنى لدخل الأفراد والأسر، بغض النظر عن عملهم وما يملكون، وتوفير شبكة أمان لهم من الطوارئ الاجتماعية، كالمرض والبطالة، ومن التقدم في السن، وتوفير أفضل المستويات من مجموعة من الخدمات الاجتماعية لكل المواطنين من دون تمييز.
تعرّض مفهوم الرعاية الاجتماعية لهزة قوية في أكثر من بلد عربي، مع صعود نجم الوصفات النيوليبرالية، وحكومات رجال الأعمال الذين ضربوا جانباً مهماً من الشكل الأبوي للسلطة، عبر الاندفاع نحو الخصخصة وتقليص دور الدولة، بحجّة تخفيض التكاليف، ورفع كفاءة الأداء من خلال التنافس. هذا النهج المدفوع بعقليةٍ رأسمالية تجارية، يهمّش دور الدولة، لصالح اقتصاد السوق، والبحث عن مراكمة الأرباح، وإدارة الدولة بعقلية الشركة، فينتج انكشاف الناس على الأسواق العالمية وتقلباتها، من دون أنماط الحماية الأبوية التي اعتادوا عليها، بعد تهميش دور الوسيط الذي تلعبه الدولة بين المجتمع المحلي والنظام الرأسمالي العالمي.
تحويل الدولة إلى شركة استثمارية يقود إلى تجاوز طبيعة الدولة ووظائفها، وتحجيمها بمسألة البحث عن الدخل والأرباح، وتقييم عمل أجهزتها بمعايير الربح والخسارة، من دون الالتفات إلى معايير أخرى. يترتب على هذا النهج تقليص دور الدولة في الرعاية الاجتماعية، وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، لأن هذه الخدمات تكلف الدولة من دون أن تعود بمنافع مادية مباشرة عليها. وعليه، تصبح الخدمات المقدمة للمواطنين، وهي في صُلب مسؤوليات دولة الرعاية، مجرد أعباء مادية يجدر التخلص منها.
الجانب الاحتوائي في الأبوية العربية يتراجع، من دون الذهاب نحو تحديث البنى السياسية والاقتصادية، والتحوّل صوب الإنتاج. وعوضاً عن ذلك، تزداد التبعية للمركز الرأسمالي، ولا تمسّ مصالح الطبقة المخملية، فيما تتحمّل الطبقات الوسطى والدنيا، كما المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، سلبيات الخصخصة، وتراجع الإنفاق الحكومي، وغياب دور الدولة في تقديم الخدمات الأساسية وأشكال الدعم، وفتح الأسواق المحلية بشكلٍ أوسع للشركات الكبرى، وفرض أنواع مختلفة من الرسوم والضرائب، ليس من ضمنها ضرائب تصاعدية على الدخل، أو ضرائب على أرباح الشركات.
انتقلت دول عربية عديدة من هيمنة العقلية الأبوية المحافظة إلى العقلية التجارية المندفعة نحو تحصيل الأرباح، غير المكترثة باحتواء الناس، ولم يتغيّر النمط الريعي، ولا تحسّنت الأوضاع الاقتصادية بتنميةٍ مستدامة، لكن إخضاع الدولة الناس بالمنافع تراجع، مع رفع غطاء الحماية الأبوية، وإثقال كاهل المواطنين بمزيد من الأعباء المادية، فاضطرّت أجهزة الدولة لممارسة عنفٍ متزايد لإكراههم على الخضوع، وكان هذا مؤشراً واضحاً على خسارة كثير من رصيد الشرعية الخاص بهذه الدول، وترتبت على ذلك إشكالاتٌ عديدة.
سمح التحديث القائم على وفرة الريع النفطي بنشوء شريحةٍ مستفيدةٍ ومهيمنةٍ على الاقتصاد المحلي، تراكم الأرباح، مستخدمةً علاقتها بأجهزة الدولة، والتسهيلات المقدمة لها، من دون الحاجة إلى دفع ضرائب على مداخيلها أو أرباح شركاتها، كما سمح بنشوء طبقةٍ وسطى واسعة، تستفيد من الفوائض المالية، وتحتويها الدولة من خلال عمليات التوظيف والمِنَح
تتقاطع هذه الأبوية الريعية مع المفاهيم الحديثة في عنوان "دولة الرفاه". بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى منتصف القرن العشرين، ثم السبعينيات من ذلك القرن، تطوّر مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية أو دولة الرفاه، وهو مفهومٌ يعبر عن استخدام الدولة سلطتها في تخفيف تفاعلات قوى السوق، من خلال ضمان حد أدنى لدخل الأفراد والأسر، بغض النظر عن عملهم وما يملكون، وتوفير شبكة أمان لهم من الطوارئ الاجتماعية، كالمرض والبطالة، ومن التقدم في السن، وتوفير أفضل المستويات من مجموعة من الخدمات الاجتماعية لكل المواطنين من دون تمييز.
تعرّض مفهوم الرعاية الاجتماعية لهزة قوية في أكثر من بلد عربي، مع صعود نجم الوصفات النيوليبرالية، وحكومات رجال الأعمال الذين ضربوا جانباً مهماً من الشكل الأبوي للسلطة، عبر الاندفاع نحو الخصخصة وتقليص دور الدولة، بحجّة تخفيض التكاليف، ورفع كفاءة الأداء من خلال التنافس. هذا النهج المدفوع بعقليةٍ رأسمالية تجارية، يهمّش دور الدولة، لصالح اقتصاد السوق، والبحث عن مراكمة الأرباح، وإدارة الدولة بعقلية الشركة، فينتج انكشاف الناس على الأسواق العالمية وتقلباتها، من دون أنماط الحماية الأبوية التي اعتادوا عليها، بعد تهميش دور الوسيط الذي تلعبه الدولة بين المجتمع المحلي والنظام الرأسمالي العالمي.
تحويل الدولة إلى شركة استثمارية يقود إلى تجاوز طبيعة الدولة ووظائفها، وتحجيمها بمسألة البحث عن الدخل والأرباح، وتقييم عمل أجهزتها بمعايير الربح والخسارة، من دون الالتفات إلى معايير أخرى. يترتب على هذا النهج تقليص دور الدولة في الرعاية الاجتماعية، وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، لأن هذه الخدمات تكلف الدولة من دون أن تعود بمنافع مادية مباشرة عليها. وعليه، تصبح الخدمات المقدمة للمواطنين، وهي في صُلب مسؤوليات دولة الرعاية، مجرد أعباء مادية يجدر التخلص منها.
الجانب الاحتوائي في الأبوية العربية يتراجع، من دون الذهاب نحو تحديث البنى السياسية والاقتصادية، والتحوّل صوب الإنتاج. وعوضاً عن ذلك، تزداد التبعية للمركز الرأسمالي، ولا تمسّ مصالح الطبقة المخملية، فيما تتحمّل الطبقات الوسطى والدنيا، كما المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، سلبيات الخصخصة، وتراجع الإنفاق الحكومي، وغياب دور الدولة في تقديم الخدمات الأساسية وأشكال الدعم، وفتح الأسواق المحلية بشكلٍ أوسع للشركات الكبرى، وفرض أنواع مختلفة من الرسوم والضرائب، ليس من ضمنها ضرائب تصاعدية على الدخل، أو ضرائب على أرباح الشركات.
انتقلت دول عربية عديدة من هيمنة العقلية الأبوية المحافظة إلى العقلية التجارية المندفعة نحو تحصيل الأرباح، غير المكترثة باحتواء الناس، ولم يتغيّر النمط الريعي، ولا تحسّنت الأوضاع الاقتصادية بتنميةٍ مستدامة، لكن إخضاع الدولة الناس بالمنافع تراجع، مع رفع غطاء الحماية الأبوية، وإثقال كاهل المواطنين بمزيد من الأعباء المادية، فاضطرّت أجهزة الدولة لممارسة عنفٍ متزايد لإكراههم على الخضوع، وكان هذا مؤشراً واضحاً على خسارة كثير من رصيد الشرعية الخاص بهذه الدول، وترتبت على ذلك إشكالاتٌ عديدة.