بيكاسو شاباً.. ستّ سنوات بين باريس وبرشلونة

18 فبراير 2019
(تفصيل من لوحة في المعرض)
+ الخط -
يرافقُ معرضَ "بيكاسو شاباً: المرحلة الزرقاء والوردية"، المُقام في بلدة ريهن السويسرية القريبة من بازل حتى السادس والعشرين من أيّار/مايو المقبل، اعتقاد بأنه سيكون واحداً من أبرز الأحداث الثقافية في أوروبا خلال العام الجاري. وأساس هذا الاعتقاد قائمٌ، ليس فقط على الجهود والأموال الضخمة وعدد السنوات التي بُذلت من أجل إعداده، بل على ما هو أكثر أهمية من ذلك: في أنه يعرض 75 لوحة ومنحوتة نادراً ما أقدمت متاحف شهيرة في أوروبا وأميركا وكندا وروسيا والصين واليابان على إعارتها، وهو ما حدث فعلاً هذه المرة، بالإضافة إلى إلحاق هذه المجموعة من الروائع الفنية بالمزيد من الأعمال البارزة من مجموعات خاصة يُعرَض بعضها أمام الجمهور لأوّل مرّة.

يُعدّ المعرض، الذي افتتح في الثالث من شباط/فبراير الماضي، الأكثرَ طموحاً بين معارض "مؤسّسة بيلر" (متحف للفن الحديث والمعاصر) التي لم يسبق أن قدّمت مثيلاً له؛ إذ يُكرَّس لعرض لوحات ومنحوتات الفنان الإسباني بابلو بيكاسو (1881 - 1973) التي أنجزها في شبابه على مرحلتَين، حملت الأولى اسم "المرحلة الزرقاء" (1901 - 1904) وحملت الثانية اسم "المرحلة الوردية" (1904- 1906).

تُعدّ لوحات بيكاسو، خلال الطور المؤسّس لتجربته الإبداعية، أكثر النماذج جاذبية في الرسم الحديث، بل ويعتبرها بعض النقّاد من أكثر المساعي الفنية قيمةً في تاريخ الفن القديم والحديث، على حدّ سواء.

وقد ظهرت بوادر هاتين المرحلتَين حين كان الرسّام الإسباني في العشرين من عمره. في هذه السن المبكرة، انطلق ساعياً نحو موضوعات وأشكال تعبير جديدة، بدأ بعد ذلك بصقلها ووصل بها إلى درجة الكمال، بأن أتبعَ تطوراً فنياً بتطوُّر فني آخر، بتلاحقٍ سريع لأساليب وعوالم بصرية ظلّت في حالة تغيُّر دائم.

يُركّز المعرض على المرحلتين الزرقاء والوردية، أي على ستّ سنوات من حياة الشاب بيكاسو التي يمكن اعتبارها سنوات مركزية بالنسبة إلى مجمل أعماله، فهي التي عبّدت الطريق أمام الأسلوب التكعيبي المؤثّر، ليس على مسار الفنّان فقط، بل على تطوُّر عالم الفن الأوروبي.

ويكتشف المشاهد، عبر الترتيب الزمني الذي عُرضت به أعمال المرحلتَين، طبيعة مهنة الرسم والتصوير لدى الفنّان، بدلالة نماذج تعامله مع الموضوعات الإنسانية، وتنقّله جيئةً وذهاباً بين مدينتَي باريس وبرشلونة، وتنوُّع معالجاته ومقارباته للمظهر الإنساني وموضوعاته.

في المرحلة التي هيمن فيها اللون الأزرق على أجواء لوحاته بدءاً من عام 1901، نجد لديه انتباهاً إلى الحرمان المادي والنفسي الذي يعانيه المهمّشون والمشرّدون على أطراف المجتمع، قبل أن يتحوّل في عام 1905، ومع استقراره في باريس، إلى موضوعات المرحلة الوردية، تلك المرحلة التي منح فيها الفن مكانةً لآمال وتوق لاعبي السيرك من بهلوانات ومهرّجين أو مشرّدين، إلّا أنه كان أكثر مرحاً.

وحتى الآن، لا تزال أعمال المرحلتين المرسومتَين في إسبانيا وفرنسا، تمتلك تأثيراً ساحراً وجاذبية وحضوراً على صعيد عالمي، بما تحمله من موضوعات وجودية تتعلّق بالحياة والحب والمصير والموت، تمثّلها نساء جميلات وأطفال أبرياء وكبار في السن تركت الحياة فيهم ندوباً؛ فكانت مصدر بهجة وسعادة، ولكن مصدر وحدة وكآبة أيضاً.

والمتابع للمراحل الأخرى في مسار بيكاسو، سيرى آثار هذه النزعة الإبداعية المبكّرة في توالي التيارات الفنية والفكرية التي مرّ بها، وكلُّها يحمل جدّةً وتطويراً يتّخذ طريقه إلى عالم الفن ولا يظل حبيس أعمال الفنّان.

فبعد هاتين المرحلتين، سنجد له تأثّراً مبدعاً بالفن الأفريقي استمر بين عامي 1907 و1909، إثر مشاهدته لمعرض تذكاري في "صالون الخريف" لأعمال بول سيزان، بعد مرور عام على رحيله؛ فقد وجد في أعمال سيزان نموذجاً للكيفية التي يستقطر بها الفنّان جوهر الطبيعة لرسم سطح متماسك يعبّر عن رؤيته المتفرّدة.

وفي هذا الوقت تقريباً، شاع تأثير جماليات المنحوتات الأفريقية التراثية البالغ بين الفنّانين الأوروبيّين، وبدأ بيكاسو مع آخرين بمزج المعالجة الأسلوبية عالية المستوى للشخوص في التماثيل الأفريقية مع أساليب الرسم والتلوين المستمدّة من أعمال ما بعد الانطباعية لدى سيزان وبول غوغان، وظهرت لوحته الشهيرة "آنسات آفينيون" التي مهّدت الطريق للأسلوب التكعيبي (1909 - 1919)، وما تلاه من انتقالات سريالية وكلاسيكية جديدة قادت إلى لوحة "غورنيكا" (1937) التي أبدعت أسلوب تعبير عن إدانة الحرب غير مسبوق، وصولاً إلى الاستمتاع بإعادة صياغة لوحات شهيرة لكبار الفنّانين؛ من أمثال غويا وفيلاسكويز ومانيه، وتقديم لوحات تأسيسية لما سيُسمّى "الحركة التعبيرية الجديدة" قبل رحيله بوقت قصير.

المساهمون