بيروت: فنّ الانفجار

16 اغسطس 2020
+ الخط -

ليس ثمّة خلاصة لانفجار بيروت سوى حقيقة واحدة، أن بيروت مدينة قابلة للانفجار؛ ومن يشكك بذلك أنصحه أن يتحاشى، لا زيارتها فقط، بل أن ينتشل دلو آرائه ويكفّ عن اجتهاداته في عناء تحليل أسباب الانفجار ودوافعه؛ لأنه، ببساطة "مطلقة"، إنما يغرف خارج البئر. أؤكد مفردة "مطلقة"؛ لأنه ليس ثمّة "نسبية" في بيروت، فهي وحدها من دحضت نظريات آينشتاين، وأثبتت أنها عاصمة "المطلق"، حيث لا مكان للمنتصف؛ إما موت من شدة الحياة، أو حياة من شدة الموت، إما أن تعشق حدّ الانفجار، أو تنفجر حدّ العشق، فيها يتجاور الشاعر والتاجر، الشيخ والسكّير، القاتل والقتيل، الحشّاش والمتحفّظ، في حارة واحدة، أو ربما على طاولةٍ واحدةٍ في مطعم على كورنيش الروشة، يتبادلون التحايا بالأنخاب والمسابح، ويقهقهون حدّ "الانفجار".

كل شيء فيها "قابل للإنفجار"، كما فهمها محمود درويش ذات قصيدة، هو الذي سبرها جيدًا وعرف سرّها، ومنحنا مفتاح فهمها حين توسّلها أن "تنام قليلًا"، على الرغم من أنه كان يعلم جيدًا أنها مدينة مضادّة للنوم وطائرات الغزاة التي "عضّته".

لا تمنحك بيروت أزيد من خيارين: الوقوف على فوهة الحلم أو الوقوف على صخرة الانتحار. وفي كليهما انفجار مغاير للآخر. في الأول ترافق صوت فيروز "المطلق"، وهو ينبعث من "أنين نايٍ" لا يفنى، وفي الثاني تصحبك فتنة الموت إلى رغبةٍ جارفةٍ بحياة لم تعد تحتمل النزق "المطلق". 

كان محتّمًا أن تنفجر بيروت، وإنْ تعدّدت الصواعق، كما انفجرت قبلًا بصاعق حربٍ أهليةٍ ضروس خلّفت عين مشاهد الخراب التي رأيناها غداة انفجار مينائها، وصاعق الغزو الصهيوني الذي أحالها نثارًا، وضرب عليها حصارًا "مطلقًا" تجاوز الثمانين يومًا، ولم ينته إلا بمجزرةٍ ما تزال مشاهدها تنزف من خاصرة الزمن العربي، ثم بصواعق حصار المخيمات.

وفي خضمّ هذه الصواعق كلها، ترفض بيروت إلا أن تهدي إلينا أجمل باقات حدائقها، من جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وبشارة الخوري وسعيد عقل، مرورًا بشوقي بزيع ومحمد علي شمس الدين، وليس انتهاء بأفصح ما أنتجته "العاميّة" من قصائد على لسان طلال حيدر. ترفض إلا أن تستعير لنا ملاكًا من السماء اسمه فيروز، وجبلًا من القمر اسمه وديع الصافي، مع كوكبة من الوصيفات والوصفاء الذين يتعذّر حصر أسمائهم.

لا أدري أهو تنافر أم تماثل، أن تجتمع تلك النقائض كلها في بقعة جغرافية محدودة؛ أن نعيش المجزرة والكرنفال في آن معًا، الملهاة والمأساة على خشبة مسرحٍ واحدةٍ في المشهد ذاته؛ فلا نعرف إن كنّا نقهقه حزنًا أم نبكي فرحًا، فثمّة في بيروت قدرة عجيبة على إحداث انفجار نووي في نواة المشاعر الإنسانية؛ لأنها مدينةٌ لا تقبل القسمة على الرتابة. إما أن يعيش قاطنها في "الأقصى" أو فليبحث عن موضع آخر لرتابته، ونسبيته، وأنصاف حياته.

تنفجر بيروت لأنها نقيض الصدأ، وتعرف أن ثمن انفجارها، مهما بلغت فداحته، ما هو إلا مقدمة لخصبٍ جديدٍ يتلو خراب الحمم والشظايا.. ليس توقّعًا أو محض رهان؛ بل استقراء مليًّا برهنه تاريخها ذاته، مدموغًا بالفن والرقص والشعر والمسرح والنقد والكتاب. تنفجر لأنها نقيض الخمَج؛ ولأن قلبها ورئتها خارج قفصها الصدري، ودماغها خارج الجمجمة، غير قابل للجم والتدجين؛ لأنها أول عاصمةٍ عربيةٍ علمتنا مفردات الحرية، ولأنها كانت وستبقى سيدة المنافي لكلّ من هرب بجِلد الفكرة من جَلْدِ الجلاد. تنفجر لأن قامتها عصيةٌ على الملاجئ التي بناها غيرها من العرب، لا لضرورات الحرب، بل للهرب من استحقاقات الحياة، وموجبات المواجهة، فتحوّلت ملاجئهم إلى كهوف وقبور وزنازين؛ وسيكون أول ما يغيظ بيروت لوم اللائمين ونوح النائحين من عربٍ لم يتقنوا بعد فن الانفجار.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.