بيروت التي صمّمها الرصاص

02 سبتمبر 2014
تصوير: وائل اللادقي
+ الخط -

مصيران، لا ثالث لهما، للمباني الحجرية التي أعاد الرصاص تصميمها وخرقت القذائف سطوحها، في وسط وأطراف العاصمة اللبنانية بيروت. إما أن تُنتزع ذاكرتها بالقوّة، فتُهدم وتُستبدل بأُخرى باطونية مغطّاة بالأحجار والزّجاج، كما جرت العادة في وسط المدينة والأحياء المجاورة، أو أن تتحوّل إلى معرض سورياليّ لا يكتفي بعرض ذكريات الحرب بل ويسجّل أيضاً يوميّاتها التي لم تنتهِ يوماً.

أحد أهم هذه المباني كان "مبنى بركات"؛ البيت الأصفر المؤلّف من أربع طبقات والذي يقع على خط التّماس السّابق في منطقة السوديكو. المبنى الذي صمّمه المعماري يوسف أفندي أفتيموس (1866-1952) تحوّل، بعد معركة قضائية دامت 13 سنة، وخاضتها المعمارية اللبنانية منى حلاق، إلى متحف "يروي تاريخ بيروت عبر القرون". انتهت المعركة منذ ثلاث سنوات، حيث وافقت بلدية بيروت على مشروع إعادة ترميمه تحت مسمّى "بيت بيروت"، واختارت البلدية المعماري يوسف حيدر ليتولى المشروع، من دون اللّجوء إلى مباراة معمارية تفسح المجال أمام أفكار معاصرة لعلها تحاكي الحداثة والذاكرة. هو متحف وطني آخر لتوثيق التّاريخ؛ التاريخ الذي طالما ما ارتبط بسيناريو الرّافعات وآليّات البناء في أرض وسماء الأسواق القديمة، وسط العاصمة.

البناء الآخر الشهير هو ذاك الذي صممه المعماري اللبناني فيليب كرم، عام 1965، وكان يعرف بـ"قبّة وسط بيروت" أو "البيضة". بناء باطوني بيضاوي يتربع في داخله مدرج سينمائي ومسرحي. المبنى الذي يتميّز بارتفاعه عن الأرض، والأوّل من نوعه حتى اللحظة، كانت دمّرته الحرب الأهلية منتصف سبعينيات القرن الماضي. مع إعادة إعمار وسط بيروت الذي بدأته شركة "سوليدير" في أوائل التسعينيات، وُضعت مخططات عديدة بقصد ترميم القبّة الباطونية، كان أبرزها ذلك الذي قدّمه المعماري برنار خوري، ويقضي بتحويل التصميم البيضوي إلى كتلة ضوئية مغلّفة بمرايا تلتقط قشرتها الخارجيّة وتعكس محيطها. لكن، سرعان ما أجهض هذا المخطّط، عام 2004، من دون سبب وجيه. يستقبل المبنى، اليوم، بعض معارض الفن المعاصر، الأجنبية في غالبيتها.

إلى جانب الأبنية التي لم توفرها الحروب، ثمة عمارات تراثية صمدت بوجه مخططات عشوائية يرأسها رجال أعمال أو نافذون في سوق العقارات، حاولوا مراراً تدمير بعض هذه الأبنية عبر غطاء سياسي، بهدف استبدالها بأخرى تجارية تناسب طموحاتهم التجارية والاقتصادية. أهمّ هذه الأبنية "مسرح بيروت الكبير" الذي جرى إنشاؤه فترةَ الانتداب الفرنسي على لبنان. مبنى تاريخي احتضن العرض المسرحي الشهير "كوميديا فرنسية" عام 1946، وكان شاهداً على حفلات لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهما.

تزعم "سوليدير" تحويل هذا الصرح إلى "بوتيك فندقي"، ضمن مخطط مدني يعبث بالتاريخ، كانت إحدى نتائجه قرار هدم آثار "فينوس" الفينيقية من دون تردّد. مخطط يكمل طريقه إلى شمال المدينة، فيطال "سوق المجوهرات القديم"، قبل أن ينحرف شرقاً باتجاه منطقة "الأشرفية"، محيط "سرسق" تحديداً، فيعبث بواجهة "بيت فغالي"، ثم يقضم مبنى "القديس نيقولاس".

لا يكتفي مخطط "سوليدير" بذلك؛ فالبيت الصخري العتيق في شارع Huvelin، الممرّ اليومي لطلاّب الجامعة اليسوعية، أمسى في خطر حقيقي، إذ يقع على قائمة المنازل المهددة بالهدم ليحلّ محلها مشروع أوتوستراد "بترو طراد". وكان سبقه مبنى الـArt Deco و"الفيلا الصفراء"، إضافةً إلى العديد من البيوت ذات الطابع التراثي في المحيط نفسه، المعرّضة لخطر الهدم، ضمن المخطّط نفسه الذي مهّد يوماً لهدم قصرَيْ "حنينة وداهش" وقصر "عكر" الكائنين في محلة زقاق البلاط القريبة من نفوذ "سوليدير".

في المقلب الآخر، الأبنية التي نجت من صفقات الهدم، وكان مصيرها أن تشكّل قاعدة صخريّة لبعض الأبراج الصاخبة. هذا هو مصير مبنى L'ARMONIAL في شارع عبد الوهاب في الأشرفية. هناك أيضاً مبانٍ يرى مُلاّكها الجدد أنها لم تعد تنفع كمواقع أثرية "مسنّة"، فقرروا استبدالها بأخرى "شابة"، حديدية، عالية الارتفاع والمردود.

كل هذا يجري في ظل تخاذل الجهات القانونية، بالتواطؤ مع أصحاب رؤوس الأموال، لوضع قانون يحمي "ما تبقى" من بيروت القديمة. مبنى "ضرغام" في شارع مونو هو أحد الأمثلة على ذلك.

لم يكن ليَعلم من أطلق الرصاصات الأولى في الحرب اللبنانية الأهلية، وتلك التي شنّتها إسرائيل، أنّ رصاصه يهوى النّحت في الأبنية. كما لم يكن ليعلم المقاتلون، منذ الاستقلال الأوّل، أنّ دشمهم وثقوب مقاليعهم وقنّاصاتهم ستتحوّل يوماً إلى كادرات سينمائية ومتاحف عقارية ترسم مشهدية العاصمة الحديثة وذاكرة بيروت.. بيروت التي دمّرتها السياسات المعمارية ذات النفوذ السلطوي، أكثر ممّا فعلت الحرب نفسها.

المساهمون