بيان منع الكتابة والكلام في مصر

02 مارس 2018
+ الخط -
بعد ذلك الانقلاب الذي تمخّض عنه نظام "3 يوليو" الذي تربّع على عرشه عبد الفتاح السيسي  المنقلب، الذي حاول فيه، من كل طريق، أن يمنع أي قول أو فعل يعقّب على ظلمه أو بطشه وطغيانه، فقيّد كل فعالية وحركة، ومنع الكلام وحرية التعبير ومنع الكتابة، ما أراد ذلك، من أراد أن يتكلم فلينافق أو يمدح، من أراد أن يكتب فليبرّر أو يزور أو يمرّر، هذه هي الأدوار المسموح بها في منظومة السيسي التي تكمم الأفواه، وتقصف الأقلام وتوزع الكلام. وعلى عموم الناس، تُفرض أطواق الصمت من غير كلام، فليصمت الجميع هو الشعار. فقط يملأ إعلام الإفك الساحة بالضجيج مدافعا ومبرّرا، هاجيا وسابّا كل من يعارض النظام، محرّضا على كل وطني، بعد أن وُضع في خانة الأشرار. خطاب عجيب يحاول، من كل طريق، أن يغلق الأبواب، ويكمم الأفواه، وينهي الكلام ويقصف الأقلام. ببساطةٍ، هو لا يريد أن يقول أو يكتب أحد كل ما يكشف اللثام عن عصابة اللئام التي تحكم مصر في هذه الأيام.
اعتدنا من جهاز النيابة العامة أن يكون خنجرا في خصر الثورة، ها هو النائب العام الذي كان قبيل ثورة يناير وبعدها، وقد خرّب كل اتهام يوجه للرئيس المخلوع، حسني مبارك، حتى يفلت من المحاكمة أو العقاب، وقد تمت الأمور، ورتُبت، لتمرير كل تلك المحاكمات الهزلية والشكلية، بلا حساب أو مسؤولية. وبدعاوى كثيرة، استطاع النائب العام، في ذلك الوقت، أن يشكل غطاء لتمرير محاكمات هزلية، أسفرت، في النهاية، عن براءة المخلوع، وبراءة كل
 زبانيته في مهرجان سمي البراءة للجميع، وكأن ثورة لم تحدث، بل أكثر من ذلك أن من تجرأ وانتمى لثورة يناير هو موضع المحاكمة، إلا من سار في ركاب النظام الانقلابي الجديد. ويأتي نائبٌ عام تلو نائب عام، لم تكن مهمته في أي يوم محاميا للشعب، بل هو مَداسٌ للمستبد، يدوس به على كل حريةٍ، وعلى أي قانون. المهم أن ينعم المستبد وذوو الجاه والسلطان بكل أمانٍ من أي انتقاد أو احتجاج، وتبدو الأمور مستقرة، حينما يصمت الجميع، ولا يجرؤون على الكلام.
جوقة الإعلام صناعتها الكذب والإفك والافتراء والسب لكل معارض، والهجاؤون لا يقومون بأي عمل سوى التبرير للمستبد والطاغية، وتقفّي أثر أي معارضة، حتى لو كانت واهية، يقومون بذلك كله، بالأمر وفق قوانين صناعة الأخبار الزائفة من مؤسسةٍ بائسة، ومن مكاتب الشؤون المعنوية والمخابرات الحربية، يدبّج كل هؤلاء الخطاب الإعلامي، علامته المسجلة إفك، وحديث افتراء، هذه هي الصنعة، وغسيل مخ جماعي، يتم بلا رحمة. لكلٍ دوره المرسوم من حملة المباخر وكلاب الحراسة الإعلامية. وفي ظل هذا الوضع، إذا كانت هناك قضايا تفلت وتمس أهل السلطة، أو تفضح أمرا كان متسترا عليه منع النشر، ها هو النائب العام يمنع النشر والكلام، هذه البلاد لا تعرف حرية الكلام، ولا تعرف أي حرياتٍ في التعبير عن أي رأي أو نقد أو معارضة أو احتجاج.
والنائب العام محامي الشعب المزعوم يحمي المستبد وطغيانه، ويحصّن كل ما من شأنه تأمين عرش سلطانه وصولجانه، ها هو النائب العام يصدر بيانا، في ضوء ما لاحظ أخيرا من محاولة قوى الشر النيل من أمن سلامة الوطن ونشر الأكاذيب والأخبار غير الحقيقية من خلال وسائل الإعلام المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي. هذا هو المشاهد لديه، قوى الشر، ذلك المصطلح المخترع من منظومة الفشل السياسي والفاشية العسكرية، إن كل كلمة تتعلق بأمر يتعلق بظلم هذه المنظومة واستباحتها النفوس والأعراض، واعتقال الأفراد من كل جنس ولون، ووضعهم وراء القضبان بلا تهمة حقيقية، تقوم أجهزة النيابة القضائية بالمطلوب لمساعدة المستبد في تحقيق رغباته، بمطاردة الرأي والكلمة، ومطاردة عموم الناس وتثبيت اعتقالهم وحبسهم. وصار الحبس الاحتياطي أمرا لتقنين الاعتقال بدون تهمة أو جريرة، سوى أن المستبد قرّر أن يضع من شاء في غياهب السجون، لأنه يتجرأ على الكلام. إنه في عرف هؤلاء من قوى الشر، إنه ينال من أمن الوطن وسلامته، إنه إذا تكلم يبث وينشر الأخبار غير الحقيقية من وسائل نشر ليست تحت يده أو هيمنته، بعد أن اغتصب كل وسائل الإعلام، ووضعها تحت إمرته وهيمنته.
من هنا، أصدر النائب العام قرارا بتكليف المحامين العامين، ورؤساء النيابة العامة، كل في دائرة اختصاصه، باستمرارهم في منع الكلام وتكميم الأفواه والاستمرار في متابعة تلك الوسائل والمواقع، وضبط ما يبث منها ويصدر عنها عمدا من أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة، تلك الكلمات ما هي إلا ترجمة لأي كلمة معارضة، ذلك أن من شأن هذه الكلمات أن تؤثر في عدة أمور، وفق هذا البيان، تكدير الأمن العام أو إلقاء الرعب في نفوس أفراد المجتمع، أو يترتب عليها إلحاق الضرر بالمصلحة العامة بالدولة المصرية.
وبصفتي مواطنا مصريا، أقدم بلاغا في منظومة السيسي ومؤسساته وإعلام إفكه، وما يصدر 
عنها عمدا من صناعة الكراهية بين أبناء الوطن الواحد، وإصدار الأخبار والإشاعات الكاذبة عن مشروعات وهمية وطنية فنكوشية. أما عن تكدير الأمن العام فحدّث ولا حرج عليه، أن يلحظ أجهزة الأمن التي كدرت المواطنين جميعا، وضيقت كل ما يتعلق بأمنهم، وألقت وبشكل واسع الرعب في نفوس أفراد المجتمع بين مقتول ومطارد ومنفي ومختطف قسري، ومن واقع تحت تعذيب حتى الموت، ومن تصفيات جسدية خارج إطار القانون.. أليس هذا هو الذي يستحق التحقيق من النائب العام الذي يسمى مجازا محامي الشعب، وروّع كل هؤلاء الناس، وألقى الرعب والخوف في روعهم، أليس ذلك هو ما يعد على الحقيقة ضررا محققا بمصالح البلاد والعباد.
أليس ذلك ما يستحق من النائب العام تحقيقا واسعا، واتخاذه ما يلزم من إجراءات جنائية؟ أم أنه لا يجيد إلا توجيه الجهات المسؤولة عن الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. ويا للعجب من تأكيده أن ذلك انطلاقا من التزامها المهني، ودورها الوطني، بإخطار النيابة العامة بكل ما يمثل خروجا عن مواثيق الإعلام والنشر. والخلاصة عند النائب العام المكمم للأفواه موجها لعموم الناس، لا تتكلم ولا تكتب، ولا تنتقد، فإن فعلت فذلك كذب وتحريض وتكدير للأمن العام، والإضرار بمصالح الدولة المصرية، وخرق للكذب الحصري من أجهزة المستبد. لا تكتب ولا تتكلم، فإن كل شيء تحت مراقبتنا، نحن عين المستبد التي لا تنام، ويده الباطشة في كل مقام، فليصمت الجميع، وليمتنع الكلام حماية لعصابة اللئام.. للأسف هذا بيان للنائب العام.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".