25 ديسمبر 2019
بيان غاضبين أم بيان خائفين؟
الأزهر الصّقري
أصدر عددٌ ممّن وقّعوا باسم مثقّفين وفنّانين ورجال فكر (في تونس) بيانا عنونوه ببيان الغضب، وجعلوا له رقم واحد، في إشارة إلى أنّه قد تعقبه بيانات أخرى. وصدر في صحيفة "الشّارع المغاربي" التونسية، في 20 يوليو/ تموز الجاري. وقد أثار ولا يزال، ردود فعل من مناصريه ومخالفيه على صفحات الوسائط الاجتماعيّة. ويجد النّاظر في البيان، على الإيجاز، المكوّنات الرّئيسيّة التّالية:
الأوّل، يُمكن عنونتُه بالمواضيع التي استدعت غضب أصحاب البيان، وكانت وراء اجتماعهم، وهي ما وصفوه بكمّ العنف والكراهية وزعزعة الأمل عند النّاس عامّة، وعند الشّباب خصوصا. ويشيرون بذلك إلى شعور متزايد بانعدام الأمن وانغلاق آفاق الأمل والعمل. ثمّ يأتي بعده في التّرتيب ما اعتبروه بالحرف "الفاشية العقائديّة الزّاحفة والمدمّرة". وعلى الرغم من أنهم لم يُوضّحوا التّفصيل المقصود بذلك، فالواضح أنّهم يشيرون إلى المخاطر الإرهابيّة التي طفت من جديد في السّياق التّونسيّ، وإلى ما لقيه تقرير لجنة الحرّيّات الفرديّة والمساواة من ردود فعل غاضبة في الأوساط المحافظة. وذكروا في موضعٍ موالٍ مشكلات السلطة السياسية، من فشل الأحزاب وظهور التفكير في توريث الأبناء، في إشارة واضحة إلى ما يُعتبر في تونس تهيئة رئيس الجمهوريّة، الباجي قايد السبسي، السّبيل لابنه حافظ لوراثته في الحزب، مقدّمة إلى وراثته في الرئاسة. هذا إضافة إلى مواضيع غضب اجتماعية، من قبيل التهاب الأسعار وتدمير الطّبقة الوسطى.
المكوّن الثّاني هويّة الموقّعين، وهم، بعبارة البيان تجمّع "مبدعين وفناّنين ونساء ورجال فكر"، وقد حرصوا على تذييل كشف الهوية بأن بيانهم نتاج لقاء "على غير موعد ولا أجندة خفية"،
في محاولة لاستباق تصنيفهم وتبرئة النّفس من الاشتغال لحساب الغير. وبرّروا كتابتهم البيان بإيمانهم بالدّور الذي يُفرض على المثقّف والمبدع والفنّان. ووجّهوا غضبهم، في جملة أولى، إلى "ما بقي من السّلطة وما بقي من ضميرها"، وفي جملة ثانيةٍ إلى "ما تبقّى في عقل الدّولة وضميرها". وفي الجملتين إشارات صريحة إلى مخاطر انهيار السّلطة والدّولة انهيارا كاملا.
يمثّل المكوّن الثّالث ما أرادوا الدّعوة إليه أمنيّا، من ضرورة أن يكون الأمن جمهوريّا بعيدا عن تجاذبات الأحزاب، واقتصاديّا من طلب السّيطرة على الأسعار الملتهبة وإنهاء المديونيّة والتّهرّب الضّريبي، وثقافيّا من ثقافةٍ يصنعها المثقّفون، وإعلام حرّ وتعليم معاصر يشرف عليه الخبراء، فضلا عن الدّعوة إلى اتخاذ إجراءات لصالح النّظام الصحّيّ.
يشار أولا إلى أن بيانات من يوقّعون تحت اسم المثقفين تواترت هذه السّنوات في تونس. وكان الجامع المشترك بينها، على اختلاف فترات صدورها، الخوف من جميع الظّواهر والأحزاب ذات المرجعيّة الإسلاميّة، واعتبارها جميعا، من دون استثناء، وباستمرار، خطرا داهما على مكتسبات الدّولة التّونسيّة. ولم يخرج بيان هذه الأيّام عن السّياق الانفعاليّ نفسه الذي يتغذّى من مخاوف زحف ما سمّاها "الفاشيّة الدّينيّة"، ومخاوف انهيار السّلطة والدّولة.
يمكن الانتباه ثانيا إلى أن قائمة الموقعين لا يجمعهم شيء إلا ما وصفوا به أنفسهم أنهم غاضبات وغاضبون. أمّا صفات المثقّفين والفنّانين والمفكّرين التي أطلقوها على أنفسهم فلا يمكن، حتّى في أعلى درجات التسامح مع المصطلحات، إطلاقها على عدد من الموقّعين، كالتي وقّعت تحت صفة "صاحبة فضاء ثقافي"، أو الذي وقّع تحت صفة رئيس بلديّة وطبيب، دعك من الذي أمضى بصفة مهندس أو محام أو رئيس لجنة، فهذه الصّفات، على أهمّيّتها ومع احترام دورها، لا تخوّل وحدها لأصحابها أن يُصنّفوا ضمن دائرة المثقّفين والمفكّرين والفنّانين.
أمر آخر يشدّ الانتباه في قائمة الموقّعين، هو أنّ عددا منهم يفتقر إلى الحدّ الأدنى من النّزاهة والحياد، فبعض الصّحافيّين خصوصا، معروفٌ بتورّطه زمن الدّكتاتوريّة في مناصرة الرّئيس التّونسيّ المخلوع، بن علي، والاشتغال لحساب جهازه الدعائي، ومعروف في هذه السّنوات بميوله الفاقعة إلى الأحزاب التي يشكّل رجال حكم بن علي عمودها الفقريّ، حزب نداء تونس مثلا.
يمكن الانتباه ثالثا إلى أنّ مضامين البيان تكشف، على نحو يسير، نوعا من المثقّفين الخائفين، لا الغاضبين، أو لعلّ غضب بعضهم الأصدق والأعمق ليس بسبب ما في البلاد، بل بسبب غياب ما يُمكن أن يجعلهم، هم تحديدا، مطمئنّين إلى استمرار أوضاعهم وامتيازاتهم. وكثيرون منهم، وهو يطلق صرخة الإدانة لما بقي من سلطة، بحسب تعبيرهم، مستفيد تماما من هذه السّلطة، ويلقى منها حظوة لم يلقها في أزمان الاستبداد، ويلقاها من دون أن يكون كما كان قديما مضطرّا إلى إراقة ماء الوجه، في سبيل ذلك.
مواضيع الغضب المذكورة في البيان، كغلاء الأسعار وانهيار النّظامين، الصّحّي والتّعليمي،
والتّهرّب الجبائيّ وغرق الدّولة في الدّيون الخارجيّة، ليست إلّا الإطار الذي يُحتاج إليه في إبعاد العين عن مواضيع الغضب الرّئيسيّة، المتمثّلة أوّلا فيما سمّاها البيان "الائتلافات الزّائفة وغير الطّبيعيّة". وثانيا في ضعف السّلطة التي تترجم آليّا ضعف المنظومة الأمنيّة، وثالثا في "ممارسات الفاشية العقائدية الزّاحفة والمدمّرة".
ويخفي كلّ موضوع من هذه المواضيع ثابتا من ثوابت جانب كبير من النّخبة التّونسيّة، فما يُشير إليه البيان مثلا في صيغة التّعميم، والجمع من الائتلافات الزّائفة، لا يُقصد به إلّا ائتلاف واحد، هو ائتلاف حزبي النّهضة ونداء تونس بُعيد انتخابات 2014. و قد مثّل هذا الائتلاف، وفيه مطاعن جوهرية كثيرة من غير التي يلمّح إليها البيان، خيبة أمل كبيرة في أوساط النخب المحسوبة تقليديّا على تيّار الحداثة والتّقدمية. وكانت هذه النّخب، في معظمها، الواجهة الثقافية لحزب نداء تونس وحلفائه في فترة حكم الترويكا.
أمّا إشارة أصحاب البيان إلى الفاشيّة العقائديّة الزّاحفة، فالمقصود بها ردود الفعل التي لقيها تقرير لجنة الحرّيّات الفرديّة والمساواة، منذ ظهوره ونشر مضامينه على صفحات التّواصل الاجتماعيّ. وإذا كان جانب من ردود الفعل هذه مغاليا في التّجريح والتّكفير، فإنّ الانتقال من ذلك إلى الحديث عن الفاشيّة مبالغة شديدة، لا يبرّرها شيء، عدا الخوف الذي غذّى دائما، وما زال يغذّي، الدّعوة إلى منظومة أمنيّة قويّة، تكون الضّامن لسلامة بعض النّخب العاجزة، لأسباب كثيرة، عن التّأقلم مع فترات الاضطراب الكبرى، كالتي تعيشها تونس منذ 2011.
ما يُمكن الخلوص إليه، أخيرا، أنّ البيان حلقة من حلقات بيانات متواترة، صادرة عن نخب تريد، على الرغم من تحيّزها السّياسيّ الظّاهر، ومساهمتها الدّائمة في تغذية الاستقطاب الثّقافي الزّائف، أن تلعب دور ضمير البلاد الأخلاقيّ، وأن تستنسخ في غير إقناع صرخات غضب لمثقفين كبار في مراحل تاريخية دقيقة، من دون أن تكون لهم الحدود الدنيا من الأرصدة المعرفية والأخلاقية التي تخوّل لهم ذلك.
الأوّل، يُمكن عنونتُه بالمواضيع التي استدعت غضب أصحاب البيان، وكانت وراء اجتماعهم، وهي ما وصفوه بكمّ العنف والكراهية وزعزعة الأمل عند النّاس عامّة، وعند الشّباب خصوصا. ويشيرون بذلك إلى شعور متزايد بانعدام الأمن وانغلاق آفاق الأمل والعمل. ثمّ يأتي بعده في التّرتيب ما اعتبروه بالحرف "الفاشية العقائديّة الزّاحفة والمدمّرة". وعلى الرغم من أنهم لم يُوضّحوا التّفصيل المقصود بذلك، فالواضح أنّهم يشيرون إلى المخاطر الإرهابيّة التي طفت من جديد في السّياق التّونسيّ، وإلى ما لقيه تقرير لجنة الحرّيّات الفرديّة والمساواة من ردود فعل غاضبة في الأوساط المحافظة. وذكروا في موضعٍ موالٍ مشكلات السلطة السياسية، من فشل الأحزاب وظهور التفكير في توريث الأبناء، في إشارة واضحة إلى ما يُعتبر في تونس تهيئة رئيس الجمهوريّة، الباجي قايد السبسي، السّبيل لابنه حافظ لوراثته في الحزب، مقدّمة إلى وراثته في الرئاسة. هذا إضافة إلى مواضيع غضب اجتماعية، من قبيل التهاب الأسعار وتدمير الطّبقة الوسطى.
المكوّن الثّاني هويّة الموقّعين، وهم، بعبارة البيان تجمّع "مبدعين وفناّنين ونساء ورجال فكر"، وقد حرصوا على تذييل كشف الهوية بأن بيانهم نتاج لقاء "على غير موعد ولا أجندة خفية"،
يمثّل المكوّن الثّالث ما أرادوا الدّعوة إليه أمنيّا، من ضرورة أن يكون الأمن جمهوريّا بعيدا عن تجاذبات الأحزاب، واقتصاديّا من طلب السّيطرة على الأسعار الملتهبة وإنهاء المديونيّة والتّهرّب الضّريبي، وثقافيّا من ثقافةٍ يصنعها المثقّفون، وإعلام حرّ وتعليم معاصر يشرف عليه الخبراء، فضلا عن الدّعوة إلى اتخاذ إجراءات لصالح النّظام الصحّيّ.
يشار أولا إلى أن بيانات من يوقّعون تحت اسم المثقفين تواترت هذه السّنوات في تونس. وكان الجامع المشترك بينها، على اختلاف فترات صدورها، الخوف من جميع الظّواهر والأحزاب ذات المرجعيّة الإسلاميّة، واعتبارها جميعا، من دون استثناء، وباستمرار، خطرا داهما على مكتسبات الدّولة التّونسيّة. ولم يخرج بيان هذه الأيّام عن السّياق الانفعاليّ نفسه الذي يتغذّى من مخاوف زحف ما سمّاها "الفاشيّة الدّينيّة"، ومخاوف انهيار السّلطة والدّولة.
يمكن الانتباه ثانيا إلى أن قائمة الموقعين لا يجمعهم شيء إلا ما وصفوا به أنفسهم أنهم غاضبات وغاضبون. أمّا صفات المثقّفين والفنّانين والمفكّرين التي أطلقوها على أنفسهم فلا يمكن، حتّى في أعلى درجات التسامح مع المصطلحات، إطلاقها على عدد من الموقّعين، كالتي وقّعت تحت صفة "صاحبة فضاء ثقافي"، أو الذي وقّع تحت صفة رئيس بلديّة وطبيب، دعك من الذي أمضى بصفة مهندس أو محام أو رئيس لجنة، فهذه الصّفات، على أهمّيّتها ومع احترام دورها، لا تخوّل وحدها لأصحابها أن يُصنّفوا ضمن دائرة المثقّفين والمفكّرين والفنّانين.
أمر آخر يشدّ الانتباه في قائمة الموقّعين، هو أنّ عددا منهم يفتقر إلى الحدّ الأدنى من النّزاهة والحياد، فبعض الصّحافيّين خصوصا، معروفٌ بتورّطه زمن الدّكتاتوريّة في مناصرة الرّئيس التّونسيّ المخلوع، بن علي، والاشتغال لحساب جهازه الدعائي، ومعروف في هذه السّنوات بميوله الفاقعة إلى الأحزاب التي يشكّل رجال حكم بن علي عمودها الفقريّ، حزب نداء تونس مثلا.
يمكن الانتباه ثالثا إلى أنّ مضامين البيان تكشف، على نحو يسير، نوعا من المثقّفين الخائفين، لا الغاضبين، أو لعلّ غضب بعضهم الأصدق والأعمق ليس بسبب ما في البلاد، بل بسبب غياب ما يُمكن أن يجعلهم، هم تحديدا، مطمئنّين إلى استمرار أوضاعهم وامتيازاتهم. وكثيرون منهم، وهو يطلق صرخة الإدانة لما بقي من سلطة، بحسب تعبيرهم، مستفيد تماما من هذه السّلطة، ويلقى منها حظوة لم يلقها في أزمان الاستبداد، ويلقاها من دون أن يكون كما كان قديما مضطرّا إلى إراقة ماء الوجه، في سبيل ذلك.
مواضيع الغضب المذكورة في البيان، كغلاء الأسعار وانهيار النّظامين، الصّحّي والتّعليمي،
ويخفي كلّ موضوع من هذه المواضيع ثابتا من ثوابت جانب كبير من النّخبة التّونسيّة، فما يُشير إليه البيان مثلا في صيغة التّعميم، والجمع من الائتلافات الزّائفة، لا يُقصد به إلّا ائتلاف واحد، هو ائتلاف حزبي النّهضة ونداء تونس بُعيد انتخابات 2014. و قد مثّل هذا الائتلاف، وفيه مطاعن جوهرية كثيرة من غير التي يلمّح إليها البيان، خيبة أمل كبيرة في أوساط النخب المحسوبة تقليديّا على تيّار الحداثة والتّقدمية. وكانت هذه النّخب، في معظمها، الواجهة الثقافية لحزب نداء تونس وحلفائه في فترة حكم الترويكا.
أمّا إشارة أصحاب البيان إلى الفاشيّة العقائديّة الزّاحفة، فالمقصود بها ردود الفعل التي لقيها تقرير لجنة الحرّيّات الفرديّة والمساواة، منذ ظهوره ونشر مضامينه على صفحات التّواصل الاجتماعيّ. وإذا كان جانب من ردود الفعل هذه مغاليا في التّجريح والتّكفير، فإنّ الانتقال من ذلك إلى الحديث عن الفاشيّة مبالغة شديدة، لا يبرّرها شيء، عدا الخوف الذي غذّى دائما، وما زال يغذّي، الدّعوة إلى منظومة أمنيّة قويّة، تكون الضّامن لسلامة بعض النّخب العاجزة، لأسباب كثيرة، عن التّأقلم مع فترات الاضطراب الكبرى، كالتي تعيشها تونس منذ 2011.
ما يُمكن الخلوص إليه، أخيرا، أنّ البيان حلقة من حلقات بيانات متواترة، صادرة عن نخب تريد، على الرغم من تحيّزها السّياسيّ الظّاهر، ومساهمتها الدّائمة في تغذية الاستقطاب الثّقافي الزّائف، أن تلعب دور ضمير البلاد الأخلاقيّ، وأن تستنسخ في غير إقناع صرخات غضب لمثقفين كبار في مراحل تاريخية دقيقة، من دون أن تكون لهم الحدود الدنيا من الأرصدة المعرفية والأخلاقية التي تخوّل لهم ذلك.