ابن بعلبك، ومنها انطلق أول ألبوماته، "صحاب الأرض"، الذي عبّر فيه عن آرائه الاجتماعية والسياسية. ويصف علاقته بالراب بأنها "كامتداد لعلاقات موسيقية طويلة سابقة، وعلاقتي مع الموسيقى بشكل عام هي امتداد لعلاقتي المضطربة مع محيط كبرت فيه". في حراك 2015، سُمعت أغانيه في الساحات "نحن والزبل جيران". اليوم عادت أغاني بو ناصر الطفّار لتسمع في الساحات على وقع اندلاع الثورة في لبنان 17 تشرين الأول 2019.
- "بيروت خنقتنا، بيروت خيبتنا، لبنان 2". ما هو لبنان 17 تشرين الأول 2019؟
* لبنان 17 تشرين الأوّل هو الوطن. المعركة، للمرّة الأولى في تاريخها، تكون بهذا الوضوح: الشعب الموحّد بوجه السلطة الموحّدة، لا حياد.
رغم كلّ محاولات أطراف السلطة لقمع الناس وتفريقهم، بقي الحراك شعبيّاً لبنانيّاً صرفاً. هي المرّة الأولى التي نتعامل فيها مع ما يحدث على أنه ثورة شعبية خالصة، وليس حراكاً مرحليّاً تقوده جهات سياسية لتحقيق مكاسب، أو نخبة معيّنة ممن يدّعون الاستقلالية.
هو لبنان الذي ترفع فيه راية الحسين في طرابلس، وتتشابك أيدي أبناء منطقتي اللبوة وعرسال في الدبكة المشتركة، وتتوحّد فيه شعارات أبناء بيروت بشقّيها الشرقي والغربي، في المطالبة بلقمة عيش كريمة. لبنان الذي يصرخ فيه أبناء الضاحية أن لا كرامة من دون حقوق وعيشة كريمة قبل أن يقمعها حزب الله، ويسحب مناصريه من الشارع ويخوّن من بقي.
توحّد الشعب اللبناني للمرّة الأولى في تاريخه، واعتززنا للمرّة الأولى في حياتنا بهويّتنا وانتمائنا إلى هذه الأرض... لا وضوحَ أكثر من هذا الوضوح.
بعد كلّ هذه الخنقات والخيبات و"اللبنانات"، ها هو لبنان الذي أصبحنا للمرة الأولى ننتمي إليه.
- كما في حراك 2015 (نحن والزبل جيران/ خير الشغب)، سُمِعَت أغانيك أيضاً في 17 تشرين الأول في ساحات لبنان. هل تثأر أغاني الراب من الأغاني "الوطنية" و"الثورية" التي يسمعها الشعب مجبراً؟
* أغاني الراب لا تثأر فقط من كلّ الأغاني "الوطنية" و"الثورية" التي يسمعها الشعب مجبراً، بل تثأر من كلّ ألف باء المعارضة المنبثقة من داخل هذا النظام وأدبياته وقيمه، إن كان بالمحتوى أو بالموسيقى أو بالأداء. سئمنا سماع المنتفعين والمنتفعات من النظام وهم يكذبون علينا، لم نعد نحتاج لتضامن من أحد، نحن نحتاج أن نعبّر، وهذه هي رسالة الراب في عمقه وجذره: التعبير الحقّ المباشر بصفة المُهاجم، وليس بصفة الفنّان الموهوب حبيب الجماهير. الرابر هو/هي الجماهير.
- طَرَحت في "تتليت" سؤالاً مهماً، هل أجابت الثورة في لبنان عنه؟ أم أن الإجابة في طور تكوينها؟
* السؤال المطروح في تتليت واسع، ويتعامل معه كلّ منّا من حيث تجربته، مين ضلّ حدّك لما عزت؟ البعض حصل على إجابات، البعض لا. الشباب الذين صوّروا فيديو الأغنية في الغوطة الشرقيّة، مثلًا، تحت القصف والحصار اليوميّ القاتل، يشاهدون من كان يحرّض عليهم حينها، يقف اليوم بوجه الفساد في لبنان، ويعلو صوته وكأن دمهم لم يكن يستحقّ كلّ هذا العناء.
لم يكن الموقف حينها ربّيحاً وشعبويّاً. من بقي بجانب العراقيين اليوم في ثورتهم؟ هم يشحذون اهتمام الكوكب، إذ لا يعيرهم الإعلام العالمي أيّة أهميّة جديّة، رغم كلّ الشهداء والدماء المسفوكة هناك.
من جهتي، وكما قلت في أغنية "المطحنة": "جلّادي جلدي وعضامي حيطان الحبس". لم أعد أنتظر أيّ شيء من أحد قبل أن أقدّم لنفسي ما أستحقّه أوّلاً. لو وقف الكون كلّه معي وأنا غارق في تناقضي متذبذب بإنسانيّتي سأبقى مكاني خاسراً.
- حَمَلت "هيكسافوبيا" اليأس والإحباط والهزيمة. هل يمكننا، الآن، أن نعلن انتهاء الحداد والخسارات؟ وكيف سينعكس ذلك على موسيقاك؟
* هيكسافوبيا لم تحمل اليأس والإحباط والهزيمة، بقدر ما كانت إعلان انتهاء اليأس والإحباط والهزيمة. أقول: "ستّ متار طول لساني ليش خرست؟".
هو تذكير بإمكاناتنا الواسعة وقدراتنا الهائلة على الفعل، وبالرغم من ذلك، ترى كلاً منّا صامتاً غارقاً في دوّامة إحباطه وهزيمته وغربته. كانت هيكسافوبيا شحذاً (تشريجةً) لهمّتنا، ذكّرت نفسي بكلماتها أنني صديق الموت من الصغر. لم أخافه؟
بشّرت نفسي (قبل الهيلا هيلا هو) بأنّ الباسيل سيتشردق بالمهجّرين، أنّ شيعة السّفارة ستسكر فوق قبر الرذيل، أنّ معاركنا ليست قصيرة، أننا بالرغم من بؤس الحراك، أشرف من مئة مسيرة. انطلقت المظاهرات للصدفة بعد إطلاق الأغنية بأيّام، واقترن القول بالواقع، شاركت بالمظاهرات في بيروت بأيامها الأولى، قبل أن أعود إلى إسطنبول، وأستكمل ما يمكنني القيام به من هنا على الأرض وفي الميدان الفنّي.
- منذ حراك عام 2015 في لبنان، وحتى 17 تشرين الأول من العام الحالي، كتبت ووصفت بؤس الحالات المعيشية والثقافية في لبنان. هل الراب فن يؤدي دور التوصيف فقط؟ أم أن الحالة الراهنة هي التي تحكم؟
* أنتجت في مشروع استغرق أقلّ من 24 ساعة، فيديو رسالة شارك فيها 20 شاباً وصبيّة، بين لبنان وخارجه تحت عنوان "ما في فرق"، في رسالة موحّدة ضدّ كلّ أطراف السلطة الفاسدة، وقد انتشر كالنار وتفاعل معه الناس بقوّة، إذ حقّق ما يقارب مئة ألف مشاهدة في أسبوع.
إنّه وقت التعبير الحاد! كلّ تجربتي منذ عشر سنوات حتّى اليوم، تصبّ في لحظات كهذه، هو ليس موسماً، هو حلم أحرّض نفسي ومن يسمعني عليه منذ أوّل سطر كتبته.
- طبعت كتابين، "الحرايق" و"القشنود"، وكان لك تجربة في تقديم "البوتقة"، كيف تصف تلك التجارب؟ وكيف تفكر في جديدك الموسيقي والإبداعي في هذه المرحلة بالذات؟
* تجاربي الكتابيّة الروائية لا تنفصل عن تجربتي الموسيقيّة، بل تستكملها وتتقاطع معها في المعنى والغاية. لم أقم في الحرايق والقشنود باستعراض لغوي أدبي ككاتب متمرّس. الكتاب الأوّل كان علاجاً ذاتياً لي بكل ما تحمل كلمة من معنى لخروجي من دائرة الاكتئاب الانتحاري، ومحاولة منّي لمشاركة تجربتي بصوت عال. و"القشنود"، لمن قرأه، يعرف أنّه بعمقه صرخة من قطع لسانه تحت ضغط الأنظمة الأبويّة القاتلة التي تفرض علينا قطع لساننا بأيدينا خوفاً من الكلام. إنّ إنتاجي المكتوب، المرئي، المسموع، وكلّ نفس أتنفّسه، سيبقى صراعاً على جبهتين: مقاومة للظلم والظالمين كلّهم من جهة، وتعويضاً عن أي ظلم تماهيت معه في السابق.