بودلير إلى أمه: أخاف أن أقتلك!

26 اغسطس 2014
بورتريه ذاتي لبودلير (1844)
+ الخط -

[في الأربعين من عمره، ومن قلب انشغاله بإصدار النسخة الثانية من "أزهار الشر" وعدد آخر من الأعمال الأدبية النقدية التي أنجزها في ذلك العام، 1861، يكتب شارل بودلير (1821 – 1867) هذه الرسالة إلى والدته التي أحبها بشغف، وعلى طريقته الخاصة، بقدر ما كان بينهما من مشاكل ومسافات جغرافية حرمته من أمومتها في طفولته وشبابه. إنها إحدى شهاداته الشخصية على حياته التي عرف فيها ما عرفه من معاناة وعذاب وحرمان. هذه مقتطفات منها].

السادس من أيار 1861

أمي العزيزة،

إذا كنت حقاً تمتكلين روح الأمومة ولم تكوني مرهقة؛ تعالي إلى باريس، تعالي لتريني ولتبحثي عني. أنا، ولألف سبب رهيب، لا أستطيع الذهاب إلى أونفلور (Honfleur) ملتمساً ما طالما بحثت عنه: قليلاً من الجرأة والحنّية. في نهاية آذار، كتبت لك: "لن نلتقى مرة أخرى"؛ وكنتُ في واحدة من تلك الأزمات التي نعيش فيها الحقيقة الرهيبة. [لكن الآن]، سأفعل ما في وسعي لقضاء بضعة أيام، ثمانية أيام أو ثلاثة أو حتى بضع ساعات قربك، أنت الكائن الوحيد الذي تبقى حياتي معلقة به.

في كل مرة أُمسك فيها الريشة لأكتب إليك عن حالي، أخاف؛ أخاف أن أقتلك، أن أدمّر جسدك الهشّ. وأنا، أنا دائماً، كما تعرفين، على مشارف الانتحار. أعتقد بأنك تحبينني بشغف، وبروح عمياء، أنت التي تملكين شخصية قوية. وأنا، أنا أحببتك بشغف في طفولتي. لكن لاحقاً، على وقع ظُلمك، بدأت أفقد احترامي لك، كما لو أن ظلم الأم أبناءها يشرعن ظلمهم إياها. غير أنني، كعادتي، تراجعت عن ذلك في كثير من الأحيان. لم أعد ذلك الطفل العنيف وناكر الجميل. ساعدتني التأملات الطويلة بمصيري وكذلك شخصيتك على فهم كل أخطائي وكل كرمك. لكن على أي حال، ما وقع من سوء بيننا قد وقع، بسبب استهتارك وبسبب أخطائي.

مقدّر لنا، بكل تأكيد، أن نحب بعضنا بعضاً. أن يعيش أحدنا من أجل الآخر. أن نقضي، قدر الاستطاعة، حياتنا الأكثر صدقاً ورقّة. مع ذلك، وفي هذه الظروف الرهيبة التي أعيشها، بتّ مقتنعاً أن أحداً منا سيقتل الآخر وأننا، في المحصلة، سنقتل بعضنا بعضاً. لن تستطيعي العيش بعد موتي. هذا أكيد. أنا الشيء الوحيد الذي يجعلك تحيين. وبعد موتك، خصوصاً إذا متِ بصدمة أنا سببها، سأقتل نفسي، بلا شكّ. موتك، الذي غالباً ما تتحدثين عنه بكثير من الخضوع، لن يصلح شيئاً في حالي. سيجتمع المجلس القضائي ولن يُدفعَ شيء ما[من الإرث]، وسأعيش، علاوة على الألم، إحساس العزلة المطلقة.

وداعاً، أنا منهك! وفي ما يخص تفاصيل صحتي، فأنا لم أنمْ ولم آكل منذ ثلاثة أيام تقريباً، وأحس بضيق تنفّس. كما يجب أن أعمل!

لا، لا أقول لك وداعاً؛ لأنني أرغب في رؤيتك!

آه! اقرأيني بتأنّ وحاولي أن تفهميني!

أعرف أن هذه الرسالة ستؤلمك، لكنك ستسمعين فيها، بكل تأكيد، الرقة والحنان، وحتى الأمل، أشياءَ نادراً ما عرفتِها.

وأحبك!

ش. ب


(ترجمة عن الفرنسية: محمود الحاج)

المساهمون