لكلّ عاصمةٍ مَعْلمٌ أثريّ سياحيّ، يُعتبَر العلامة التاريخية على هذه العاصمة، بحيثُ يصبح ذكر المَعْلم الأثريّ مُترافقاً في الذاكرة مع اسم العاصمة، وبالعكس. فإذا كان "تمثال الحريّة" يرمز إلى مدينة نيويورك الأميركيّة، و"برج إيفل" يرمُز إلى العاصمة الفرنسيَّة باريس، و"ساعة بيغ بن" ترمز للعاصمة البريطانيَّة لندن، و"الساحة الحمراء" ترمُزُ للعاصمة الروسيَّة موسكو، فإنَّ "بوابة برلين" أو ما تُعرف بـ"بوابة براندنبورغ"، ترمُز إلى العاصمة الألمانيَّة برلين.
ولا يجري اختيار المعلم التاريخي السياحي للبلدان بشكل عشوائي، بل يعتمد على أهميّته التاريخيّة الحدثيَّة الفاصلة في تاريخ البلد، فتمثال الحرية يشيرُ إلى الثورة الشعبيَّة الأميركيَّة المقدِّسة للحريّة التي تشكّل المبدأ الأساسيّ لليبراليّة الحديثة، كما يرمُز برج إيفل إلى أهداف الثورة الفرنسيّة، كالمساواة والعدالة الاجتماعيّة، أما بوّابة برلين فترمز إلى انتهاء حقبة التقسيم وتوحيد ألمانيا.
وقد حرص المهندس كارل جوتهار على أن تكون البنية الهندسيَّة للبوّابة مستوحاة من الرؤية الإغريقيّة للمعمار، الرؤية التي تختصر الشوق البشري إلى صناعة فردوس على الأرض. إذ إنَّ تصميم البوّابة مستوحى من بوّابة معبد "الأكروبوليس" في أثينا، وحتّى الآن هنالك نقوش غائرة على جدران البوابة البرلينيّة ترمُز إلى الأساطير اليونانيّة القديمة.
الأهميَّة التاريخيَّة السياسيَّة لبوَّابة برلين كبيرة في الذاكرة الجماعيَّة الأوروبيَّة عموماً والألمانيَّة على وجه الخصوص. إذْ إنَّها كانت تفصل بين كلٍّ من ألمانيا الشرقيَّة، التابعة لحلف وارسو، وألمانيا الغربيَّة، التابعة لحلف الناتو، لذلك فقد كانت ترمز إلى تقسيم ألمانيا والحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي. وقد تغيّر المعنى الرمزي للبوّابة كليّاً بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين. إذ احتفل الناس، في العام 1989، بالقرب من هذه البوَّابة، لتصبح رمزاً لتوحيد الألمانيَّتين الشرقيَّة والغربيَّة في جمهورية اتحادية واستقرار أوروبا قاطبة.
تطلّ بوابة برلين على ساحة براندنبورغ الشهيرة وسط المدينة، وليست بوابة برلين مكاناً أثرياً سياحياً تاريخياً فحسب، بل هي "ساحة عامة"، بالمفهوم السياسي لمصطلح "ساحة عامة". إذْ تصبح ملتقىً للعديد من الفعاليَّات الثقافيَّة والفنيَّة والسياسيَّة، من حفلات رقصٍ وغِناءٍ ومُوسيقى، إلى مِنصَّةٍ للاحتجاج السياسي والنشاطات الأدبيّة.
في الصيف الماضي، كانت تُعرَضُ في هذه الساحة مباريات كأس العالم، حيث فاز المنتخب الألماني بالبطولة. عشرات آلاف الشباب كانوا يأتون من كل أنحاء برلين وضواحيها لتشجيع المنتخب الألماني، في مشهد حاشد مهيب، ما أثار خوفاً لدى بعض النُّخَب الألمانية البالغة الحساسية تجاه التجربة التاريخية للحزب النازي، إذ أبدوا تخوُّفهم من ارتفاع منسوب "الوطنية الألمانية" المرافقة للتشجيع الرياضي. ثمّة رُعبٌ من التشابه بين مشهد حشود المشجعين ومشهد الجنود الألمان في الحزب القومي الاشتراكي النازي. بالتأكيد هذا الخوف مُبالغٌ به، ولكنَّه يدلّ على مدى حساسيّة الألمان تجاه تاريخهم وشدّة صراحتهم مع ذاكرتهم.
قبل ثلاث سنوات من انطلاق حركات الاحتجاج في العالم العربي أو ما يسمَّى بـ"الربيع العربي"، لم تكن هنالك ساحات عامّة في معظم البلدان العربية، لأنَّ مفهوم "الفضاء العام" كان محتكراً من قبل السلطات السياسية، ومعظم المعالم التاريخيّة الأثريّة في البلاد العربيّة، منزوعة من أيّة روح تحرريّة احتجاجيّة على السلطات الحاكمة، هي أمكنة تاريخية فحسب، ولا يُسمح للناس بإحياء هموم الحاضر فيها من جديد، أو قد تكون هذه المساحات العامة موجودة إلاّ أنّها مجمّدة بحكم امتلاك الدولة لها والتي ترفض استثمارها أو استخدامها لمصلحة الشعب.
حدث تحوّلٌ كبير لم يكتمل بعد إلى خاتمة مستقرة، ولا يبدو أنه الآن في وضع يدعو إلى التفاؤل، لكننا لا ننسى أن "ميدان التحرير" في القاهرة، و"ساحة الساعة" في حمص، مثلاً، كانتا من ضمن محاولات شعبية فريدة للخروج والظهور بغية التحكّم بشروط الحياة وإنشاء ساحات تكون شعبية وتاريخية في صورتها ومعناها في آن.