بقرار الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز، الخميس الماضي، بإعفاء الأمير بندر بن سلطان من منصبه كأمين عام لمجلس الأمن الوطني السعودي، يكون بندر، الشخصية الأكثر غموضاً وأسطرة في المخيلة العربية، قد أصبح خارج اللعبة السياسية، وذلك من حيث المناصب، بعد أن تبوأ سابقاً منصبي سفير في الولايات المتحدة الأميركية ورئيس للاستخبارات. إلا أن شخصية كبندر ليس من السهل أن يخرج من السياسة ويختار له كرسياً هزازاً في منزله، مطلّقاً كل الأمجاد والعلاقات الدولية التي بناها وعجنها وعجنته، فهو صنع من نفسه رقماً صعباً منحه الثقة ليكون في الصفوف الأمامية التي تقرر وتنفذ، ليس داخل الأسرة الحاكمة فقط، بل في العالم.
دبر انقلاباً فتولى الاستخبارات
صُعق السعوديون في نهاية عام 2008 وهم يقرأون خبراً تتداوله منتديات الإنترنت، أن الأمير الأكثر غموضاً، بندر بن سلطان، كان يخطط للقيام بعملية انقلاب تزيح الملك السابق عبدالله بن عبدالعزيز من سدة الحكم، ليحل بندر بنفسه على هرم السلطة السعودية. الأمر استقبل بشيء من الاستغراب، ولا سيما أنّ الخبر كان يشير إلى وجود انقلاب بسواعد عسكرية يوجّهها ويأمرها بندر، ما يعيد الذاكرة إلى عقود مضت عندما تم عزل الملك سعود من منصبه من قبل أخيه الملك فيصل، وذلك عندما تدخلت كتائب في مناوشات بسيطة بين بعضها بسبب الاصطفاف بين المعسكرين. إلا أن العسكر السعودي لم يشهد بالفعل انحيازاً للقيام بانقلاب كامل على الأسرة الحاكمة إلا في يونيو/حزيران من عام 1969، وذلك عندما نظمت مجموعة كبيرة من الضباط السعوديين، وغالبيتهم من سلاح الطيران، محاولة انقلاب فاشلة.
تزامن خبر الانقلاب مع عودة بندر بن سلطان إلى السعودية، بعد أن قضى اثنين وعشرين عاماً سفيراً في واشنطن. ولم تكن العودة مخيبة لآماله، بل تم استحداث من أجله منصباً وتعيينه فيه، ألا وهو رئيس مجلس الأمن الوطني. لذلك كان الخبر غير قابل للتصديق؛ لأنه لا يوجد ما يجعل بندر يقدم على خطوة جريئة كهذه، ولا سيما أن كبار أمراء الأسرة آنذاك، ومن ضمنهم والده الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع، لا زالوا يمارسون سلطتهم بقوة في اتخاذ القرار.
تناسى السعوديون تلك الحادثة ودخلت في أدراج الماضي، إلا أن صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية أحيتها من جديد في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2013، إذ ذكرت يومها أن الخبر صحيح، وأن بندر كان لديه تطمينات من قبل الإدارة الأميركية بأنها تدعم هذا التوجه من الإسراع في تولي جيل الأحفاد من آل سعود الحكم، وأن أصل الصراع كان بين كتائب الجيش وليس في قطاعات من الحرس الوطني كما أشيع.
تلك المعلومة إن صدقت، والتي جعلت من بندر مخطِطاً للانقلاب على نظام الحكم، وفي ذات الوقت يعين رئيساً للاستخبارات ويتسلم الملف السوري، فهي نقطة من بحر المعلومات المتناقضة التي ترد عن هذه الشخصية التي لا يُعرف الكثير عن وجهها الحقيقي، إذ إن الأحداث المتوالية تكشف دوماً عن أسرار ذلك الأمير، كما لو كان كل ما يتعلق به عبارة عن حبال ملتوية لا نهاية لها.
حكاية الأسطورة
من عرف قصة بندر بن سلطان سيعرف أنه أمام شخصية عرفت أنها، لأسباب متعلقة ببرتوكول أسرة ملكية، لن تلقى حظوة وتقديرا بحكم لون بشرتها، لذلك عمل واجتهد على نفسه حتى شذّ عن أبناء الأسرة. ولكن بذكائه وقدرته على إبهار الشخصية المقابلة له، قفز بندر من الصفوف الخلفية كابنٍ غير معترف بإمكانياته، ليتحول إلى العقل المدبر لصفقة بيع طائرات "إف 15" إلى السعودية في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر. تلك الصفقة التي كانت صفقة بندر بامتياز؛ لأنه كان يدرك أن إتمام تلك الصفقة يعني حصوله على منصب رفيع؛ لأن إمكانياته ستستوجب التقدير، وهذا ما حدث بالفعل. ما أن تمت الصفقة حتى عين بندر سفيراً سعودياً في واشنطن منذ 1983 حتى 2005. ولأن بندر لم يتلق توجيهاً وتعليماً من والده، أو حتى من جناح السديرين النافذ في الأسرة الحاكمة، فقد قرر بذاته أن يكون صقراً يتدرب ويتعلم بنفسه، ليكون منفرداً والسرب يصبح تابعاً له. لذلك فهم أن ظروف المنطقة ووجوده في قلب صناعة الأحداث، وهي الولايات المتحدة الأميركية، يستوجب عليه أن يسوّق ويقدم نفسه كحليف يمتلك قدرات خارقة تخدم الأميركيين في أصقاع الأرض.
فكانت البداية مع ملف المجاهدين العرب في أفغانستان الذي من الصعب إغفال الدور الكبير الذي أداه بندر في تحول المعركة كما يحب ويرغب الأميركيون، عن طريق تحويل مقاتلين مرتزقة إلى أداة تنفذ ما يطلب منها. وعلى الرغم من وجود بندر في واشنطن، إلا أنه كان يدير اللعبة في أفغانستان بشكل محترف؛ كونه قرأ الساحة الأفغانية ودور المقاتلين العرب المتوقع، لذلك نجح في أن يعبر بالسفينة إلى الدفة الأخرى بنجاح. ولأن شخصاً كبندر لا يترك خلفه أثراً مفضوحاً، فقد حول ما يمتلكه من أرشيف ومعلومات عن المعسكرات والمقاتلين إلى ورقة يمول فيها الأميركيين في السنوات القادمة للتعامل مع ملف الإرهاب، وتحديداً قبيل غزو أفغانستان في 2001. وهذا ما يفسر كيف حلّ بندر ضيفا على بوش الابن بعد هجمات سبتمبر/أيلول بيومين، وذلك من أجل التنسيق المعلوماتي حول الهجمات.
بندر بن سلطان لم يكن ضيفاً عابراً على صناعة الأحداث في العالم، فوجوده المحير في أكثر من ملف، جعل منه أسطورة تنسج حولها القصص المبالغ فيها، إذ لا ينافسه في ذلك سوى الجنرال الإيراني قاسم سليماني على مستوى الشرق الأوسط.
ففي الذاكرة المحلية، كانت شخصية بندر تقدم كقدوة يحتذى بها لتجاوز العقبات والوصول إلى الطموح المرغوب فيه، إلا أن شهرته زادت شعبياً بعد نجاحه، عبر صفقة سرية لإتمام وتركيب صواريخ "إس سي سي 2" صينية الصنع في شمال المملكة، والتي يصل مداها إلى 1500 ميل، وذلك في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن ارتبط نجاح الصفقة برواية شبه رسمية عن تغيير السفير الأميركي في الرياض، بعد أن تقدم بطلب لمعرفة أسباب تركيب تلك الصواريخ، واعتبر ذلك التصرف منه تدخلاً في الشؤون المحلية. بخلاف ذلك، فلا يعرف عن بندر شيء قدمه في الشأن الداخلي. ولكن خارجياً، فسجله الحافل بالأحداث والقصص من الصعب حصره وجرده، ولكن أن يكون قرار ترشح بوش الابن مرتهنا بنصيحة بندر له بالترشيح من عدمه، تعد مفتاحاً لفهم إلى أي حد وصل ذلك الرجل في صناعة القرار في العالم.
سورية
منذ أن عاد بندر من واشنطن وتسلم منصبه، الذي عزل منه قبل أيام، بدا أن السنين التي كان يسرح ويمرح فيها في ميادين صناعة الأحداث في العالم قد أرهقته، لذلك كان يسمع عن رحلاته الخارجية أكثر مما يقدم في مجاله السياسي. ومع هذا الاستنزاف، فإن الملك عبدالله بن عبدالعزيز عينه رئيساً للاستخبارات السعودية عام 2012. وخلال 18 شهراً التي تولى فيها المنصب حتى عزله، لم يكن له من الأمر إلا التركيز على الملف السوري ومحاولة حله، تماماً كما فعل من قبل في الملف الأفغاني. أمير المجهادين، أو هكذا كان يلقب، لم يجد له الأرض مفروشة بالورود، فالحشد الشعبي لم يكن قائماً على "كفر وإيمان" كما في أفغانستان. لم يكن من الممكن تجنيب السعودية خطر انزلاق مواطنيها في أرض المعركة، فما كان منه إلا التنسيق مع وزارة الداخلية في تحويل كافة الطاقات الشبابية الدينية، التي أخذت تقيم تجمعات ومظاهرات للمطالبة بالإفراج عن الموقوفين الأمنيين، إلى ساحات القتال.
لم ينجح بندر في الملف السوري، بل سرعان ما فشل ورمى الملف على وزير الداخلية، وولي ولي العهد الحالي محمد بن نايف، وذلك ليتولى الأمر.
بندر قام بإدخال السلاح إلى الداخل السوري بهدف تدعيم ما عرف من قبل وسائل أعلام غربية بالمقاتلين المعتدلين، إلا أن بعضهم لم يكونوا إلا أمراء حرب، لذلك بيعت تلك الأسلحة أو تم الظفر بها من قبل جماعات تصنف إعلامياً أيضا بالتشدد والتطرف، وفي مقدمتها الدولة الإسلامية (داعش). بندر لم ينجز شيئاً يذكر منذ عودته من واشنطن، إلا أن احتفاظ الملك عبدالله بن عبدالعزيز به كان يشير، بحسب مقربين من اتخاذ القرار، إلى أنه بهدف ضمان تدعيم صفوف نجل الملك الراحل متعب بن عبدالله برجال أقوياء، ولا سيما أن بندر منذ إشاعة تدبيره للانقلاب التي كل فترة يتكشف جزء منها، وهو مهادن ولا يمتلك أنياباً ليكشر عنها للمنافسة على تسلم السلطة.
يليق ببندر بن عبدالعزيز الآن لقب المستشار بعد كل سنوات الخبرة التي تراكمت عنده، فهو الآن يعود إليه أباطرة السياسة للمشورة والنصيحة، فيما الرجل لا يستطيع أن ينفذ أي أمر حاسم وقاصم، في ظل تكبيل يديه محلياً وتجريده من كل مناصبه، إضافة إلى دخوله في نوبات مرض ترغمه أن يتوارى عن الأنظار كل فترة.