30 أكتوبر 2024
بنات المخيم
يقول المفكر الأميركي، جوان كولاس، إن أجمل الصداقات هي صداقات الطفولة، حيث تتلاقى الأرواح البريئة من دون سبب، وتنعقد بينها أواصر الحب من دون مصلحة. وبناء على مقولته، نحن فعلا في حنين دائم إلى أصدقاء الطفولة، خصوصاً إذا ما كانوا يرتبطون بذاكرتنا الأولى عن مخيم اللجوء الذي احتضن جراحنا، فقد بقيت في ذاكرتي صديقة من صديقات الطفولة في المخيم، وأتقصّى أخبارها، واسترجع كل التفاصيل الدقيقة لحياتنا في المخيم، حيث المحبة والتعاون والنجدة والشهامة، وكل ما افتقدناه في هذا الزمن، فلم تبرح باحة بيت المخيم ذاكرتي، ولا جدتي العجوز البدينة الطيبة، ولا غرفة نوم أبي وأمي، والتي جمعتنا، أنا وإخوتي الأربع، بسبب ضيق المكان، فكانت أمي تفخر، دوماً، بأنها عاشت في غرفة قرميدية في المخيم، كانت بمثابة بيت كامل، حشرت فيها، على الرغم من ضيقها، خزانة وسرير وثلاجة من النوع الذي لا يفتح من الداخل، وكانت تحذّرنا من الاختباء بداخلها، لكي لا نموت اختناقاً، وتلفزيون" أبيض واسود" وعدة كراسي من الخيزران.
وقد غادرت عائلتي المخيم باكراً، وأنا ابنة خمسة أعوام، بحثاً عن بيت أوسع، لأن حكومة الاحتلال كانت تمنع هدم البيوت القرميدية، وإقامة البنايات الإسمنتية ذات الطوابق. لذلك، ألصقني انسلاخي القسري والمبكر عن المخيم بجارتي وزميلتي في المدرسة، والتي كان بيتها غائباً في عمق أزقته، وكانت أمها تعد شراباً من الماء والسكر، وتصبغه بصبغة رخيصة، وتضعه في الثلاجة، ثم تسكبه في أكياس صغيرة، تربطها بإحكام، وتبيعه لأطفال المخيم. ونهتني أمي، بالطبع، عن شراء هذه الأكياس، وكسرت نواهيها بسرعة، لأني كنت أحب صديقتي، ولم أتوقف عن شرائه من أمها، ولازمتني نوبات التهابات الحلق، في عرض مستمر ومقلق، طوال العام الدراسي، لأن الشراب يكون مثلجاً، وأسكبه في حلقي الجاف، بعد مشوار العودة من المدرسة. وتقع الكارثة التي لم أعرف لها تفسيراً علمياً، لأني كنت واقعة في غرام صديقتي، وما ينتجه بيتها، وكأن سر الحياة يتم وضعه في هذا الشراب. وتخيّلت أن من يشربه يتحمل النوم في بيت قرميدي مكسر السقف، ويشرب من حنفية الشارع، وينام على حشية أرضية، ويقضي حاجته في حمامٍ، حفرة في باطن أرض.
لم تعرف أمي أنني كنت أبدّل حذائي بحذاء صديقتي البالي، وأستبدل حقيبتها المهترئة بحقيبتي الجديدة، وكنت وصديقتي نجلس تحت شجرة السرو على مدخل المخيم، والتي تبدو مثل وحش أسطوري، يفصل بينه وبين مجمع مدارس "أونروا" التي كانت تشبه ثكنات عسكرية، فنفتح حقائبنا، ونحل الواجبات، ثم أعطي صديقتي ما حشرته أمي في حقيبتي، من دون علمي، من شطائر وحلوى وفاكهة. وأفرّغ الحقائب وأستبدلها بسرعة، ونسير سوياً يداً بيد، وأنا أحمل الحقيبة المهترئة على ظهري، وأتوقف مراتٍ، مقلدة صديقتي، وأنا أشبك خيوطها مرة، أو أعيد إغلاقها مرات، حتى نصل إلى باب بيتها، فتناولني "المعلوم"، أي كيس الشراب المثلج، ونستبدل الحقائب والأحذية، وأكمل قطع الشارعين المتبقيين وحيدة، وأنا أرتشف كيس الشراب الثلجي، ويتلون محيط فمي بصبغته، وأحاول غسله، قبل أن تراه أمي، لكن أمي تكشفني، أو يشي بي أحد إخوتي.
افترقنا بالزواج المبكر لصديقتي ابنة المخيم، ولم أتوقف عن البحث عنها، وعلمت أنه أصبح لديها جيش من الأطفال، وأنها استقرت في مخيم لاجئين آخر يشبه مخيم طفولتنا، ولم تعوّضني كل الصداقات الزائفة في العمل، أو من مواقع التواصل الاجتماعي، عن صداقتنا الخالية من المصالح، وخوفنا على بعضنا ودفاعها عني أمام تلميذاتٍ حاقدات على تفوقي. كنت أستنجد بقدرتها على الردح الطفولي، بلهجتها الفلاحية التي تقلب حرف القاف "كافاً"، على الرغم من أنها لم تردد يوماً عبارة مسجلة على أسطوانة، على غرار ما تردده صديقات هذه الأيام، مثل: "حبيبتي وتقبري قلبي"، ولا يمكن أن ينتهي ما كان بيننا بضغطة يد على زر" بلوك".