بلى، "أنا شارلي"

13 يناير 2015

"أنا شارلي" في مسيرة تضامن في فيينا (11 يناير/2015/الأناضول)

+ الخط -

لطالما تساءلت عند حدوث جريمة مروّعة، يروح ضحيتها أبرياء، بم يفكر ويشعر أهل القاتل؟ كيف يعيشون هذه المأساة المضاعفة، وكيف أنهم، حتى بعد أن ينسى الناس ما حصل، لا ينسون ولا يُنتسون. ولطالما تساءلت لو أن القاتل يعرف أنه، بارتكابه جريمته، إنما يقضي على أقرب الناس إليه، إذ يعرّضهم للكراهية والاتهامات والشعور بالعار، فهل كان ليتردد، ولو قليلاً، قبل ارتكابها؟
اليوم، وإن كنا نكاد نشفق على شريف وسعيد كواشي، مرتكبي جريمة "شارلي إيبدو" وأمثالهما، كيف أنهما عاشا يتيميْن، منبوذين وضائعين، وكيف أن العنف الذي في داخلهما لم يجد متنفساً له إلا في الإرهاب الإسلامي، الذي عرف كيف يجنّدهما، إلا أنه ينبغي لنا الاعتراف أننا في موقع أهل القاتل هذه المرة. نعم، نحن أهل القاتل، لأننا نعرف جيداً أن كل التبريرات النفسية والسياسية والاجتماعية، على صحتها ربما، لا تجوز، وأن الآخر، ذلك الصحافي السمج، الهازئ الساخر الذي استفزنا وأهان مشاعرنا ومقدساتنا، الذي أطلقنا عليه الرصاص وأرديناه قتيلا، بكل برودة أعصاب، لم يكن سبب مصائبنا أو مصدرها. نحن أهل القاتل نعرف جيداً أن في مجتمعاتنا وثقافاتنا ومعتقداتنا علّةً كبرت علينا، وما عدنا نعرف كيف نعالجها، أن هناك حروباً تسرق أرواح أبنائنا، وتجعلهم آلات قتل وعنف وإرهاب، وأن القتل الذي ننشر راياته السوداء، ليست له قضية ولا هو يدافع عن حقٍّ ما.
والحال، "وحده الحبر وجب أن يسيل، لا الدماء"، كما هو الشعار الذي رُفع في المظاهرة السلمية المليونية، التي سارت في شوارع العاصمة الباريسية، والتي تجعلنا نكاد نحسد الفرنسيين على "صدمتهم"، نحن الذين ما عادت تصدمنا ولا حتى أبشع الأخبار والممارسات. وكأن الشعب الفرنسي كان يحتاج إلى ما حصل، لكي يعيد اكتشاف مكوناته وتناقضاته، ولكي يقيس فعلياً ما يحيق به من الأخطار، كأن يعي أن انزلاقه البطيء والمحتوم على منحدر الإسلاموفوبيا التي يروّج ويحشد لها كثيرون، لهو أكثر تهديداً وخطورة من خطر الإرهاب الإسلامي الخارجي.  وليست المجموعة المؤلفة من عدد كبير من قادة العالم، الذين ساروا في مقدمة المظاهرة الرافضة للإرهاب، إلى جانب الرئيس الفرنسي، والتي كالعادة عمدت إلى استغلال وتسييس ردة فعل شعبية عفوية، هي من دفعت عشرات الآلاف من الفرنسيين إلى النزول إلى الشارع، أو إلى رفع شعاراتهم ضد الكراهية، ودفاعاً عن حرية التعبير. فقد كان الفرنسي المسلم قاتلاً ومقتولاً هذه المرة، كما كان الفرنسي الأسود والمهاجر واليهودي، وفي ذلك فرصة "لربيع" فرنسي، مرشّح لأن يتحول سريعاً، كسواه، إلى خريف.
بعض اليسار الغربي الذي تخلى عن قيم إنسانية كونية، باسم حق الاختلاف، رفع، مع إعلان حزنه على الضحايا، شعار "أنا لست شارلي"، مبرراً موقفه بالتعدي الأسبوعي للمجلة على المسلمين بذريعة أنها "الثقافة الفرنسية" أو "العلمانية"، أو بسياسة التمييز التي تمارسها فرنسا تجاه المسلمين، تضاف إليها السياسة الفرنسية في الشرق الأوسط، المتهمة بالجبن وبترك غزة وسورية تغرقان في دمائهما. لكن، ألا يرى أن ذلك يعني، حينئذ، أن آلاف المسلمين الفرنسيين مرشحون لأن يتحولوا ذات يوم، إلى محمد مراح، خالد كلكال، أو سعيد وشريف كواشي؟ مبرّراً، بالتالي، الخوف المنتشر في أوروبا كلها من الإسلام، ومضيفاً بذلك إلى طاحونة من يشحنون الأجواء، أمثال إريك زيمور وميشال ويلبيك وبرنار هنري ليفي وغلوكسمان وسواهم من كارهي العرب والمسلمين؟
لم أكن يوماً من قراء "شارلي إيبدو"، وهي المجلة الساخرة التي كانت تقف، قبل الهجوم عليها، على حافة الإفلاس. لكني ممن رفعوا شعار "أنا شارلي"، لأنه ليس مسموحاً قتلُ إنسان بسبب آرائه، حتى ولو كان يسخر من المقدسات، إذ "وحده الحبر يجب أن يسيل، لا الدماء".

 

دلالات
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"