بلادنا فلسطين
مبكرًا، وبدافع الحب وحده، اضطلع مصطفى الدبّاغ (1897 – 1989) بحمل كبير تنوء به مراكز ومؤسسات متكاملة، حين قرّر الانطلاق برحلته منفردًا في تأليف موسوعته الفلسطينية، فجاءت عملًا متفردًا لا يزال، حتى يومنا، مرجعًا أوليًا للقراء والباحثين. تقول عنها المؤرخة الفلسطينية بيان نويهض: "أكاد أقول إنّ الهُوية الفلسطينية لا تكتمل ما لم يطّلع صاحبها على موسوعة المؤرخ الدباغ، فهي حجر الأساس في المكتبة الفلسطينية"، وتقول عن صاحبها: "إنّه مؤرخ فلسطين، وعلى وجه الدقة والإنصاف هو مؤرخ كل مدينة وقرية وعهد، ومؤرخ البشر والحجر والشجر".
ثمانية عشر عامًا استغرقتها موسوعة "بلادنا فلسطين" لتصدر بصورتها النهائية في طبعتها الأولى عن دار الطليعة في بيروت عام 1965، بعد صدور جزئها الأول عن مكتبة الطاهر في يافا عام 1947 وكانت وقتها كتابًا صغيرًا يضم بقسميه الجغرافي والتاريخي مدخلًا لكل ما يتعلّق بأرض فلسطين منذ أقدم العصور إلى زمن الوجود العربي فيها.
كان الدباغ مديرًا ومفتشًا للمعارف حين بدأ يجول بين القرى الفلسطينية نزولًا من يافا إلى غزة وحتى بئر السبع؛ يستمع إلى روايات ساكنيها عمّا شهدته من حوادث ووقائع، ويوثّق ما يراه فيها من مواقع وآثار، إلى أن تجمّعت لديه مادة غنية ملأ بها ما يقارب الستة آلاف صفحة.
حين وقعت النكبة عام 1948، وبعد أن بلغ سوء الحال ذروته، حمل الدباغ أوراقه الثمينة في حقيبة صغيرة، ورافق أبناء عمومته في رحلة الهجرة على ظهر آخر سفينة مبحرة من يافا إلى بيروت. لم يحمل معه في هجرته غير هذه الحقيبة التي تحوي ثمرة ما يزيد على عشرة أعوام من الجهد والبحث، ولكنّها، وكما يروي في مقدمة موسوعته، اُنتُزعت منه وأُلقيت في عرض البحر حين صدرت أوامر الربّان بالتخفف من جميع الأحمال حفاظًا على المركب من غرق محقق. بذلك ضاعت النسخة الوحيدة وغير المكتملة من "بلادنا فلسطين".
وصل الدباغ إلى برج أبي حيدر في بيروت مُفرغ الفؤاد إلّا من همّ النكبة وخيبة ضياع نتاج عمره. وفي حين استقبله أهله الذين سبقوه إليها بفرحة نجاته لقيهم هو بسخط عارم يملأ صدره. ولأنّ المنافي لا تمنح اللاجئين، ضمن خياراتها المحدودة، فسحة العمل الوطني الإضافي؛ انحصر نشاطه خلال هذه المرحلة على التعليم في إحدى مدارس مدينة دير الزور في سورية. ليعود بعد عام إلى بيروت، ومن ثمّ إلى القدس، حيث عُيّن مسؤولًا عن التعليم في الضفة الغربية.
في القدس، باشر الدباغ العمل على كتابه من جديد، فأعاد جمعه وترتيبه وتنسيقه ومن ثمّ نشره في نهاية الأمر. وعن ذلك يقول: "بعد أن مرّت سنوات التشرد ومرحلة الذهول التي خلفتها النكبة، رأيت أن أعود إلى كتابي لأجمعه من جديد وأقدّمه لأبناء العروبة عامة، ولأبناء فلسطين خاصة، ليذكروا وطنهم المنتهب، وليعملوا على إنقاذه. عدتُ إلى كتابي، الكتاب الذي تشدني إليه ذكريات الوطن الغالي، وتسيطر على وجداني، فلا أملك الانصراف عنه".
أعادت دار الطليعة بالاشتراك مع رابطة الجامعيين في الخليل نشر الطبعة الثانية من الموسوعة عام 1975، وبعد وفاة الدباغ طرحت مؤسسة الدراسات الفلسطينية فكرة إعادة نشر طبعة محدّثة لها، إلّا أنّ تكلفة المشروع المرتفعة حالت دون تحقيق ذلك. وفي عام 2016، وبتبرع سخي من د. صلاح مصطفى الدّباغ، صدر عن المؤسسة الطبعة الثالثة للجزء الأول منها، على أن يتوالى صدور بقية أجزائها تباعًا.
لم تكن "بلادنا فلسطين" المساهمة الوحيدة التي قدّمها مصطفى الدباغ للمكتبة الفلسطينية والعربية، ولكنّها كانت الأهم من بينها. وهي إلى جانب مساهماته الأخرى، ومع مساهمات غيره من المؤرخين الفلسطينيين، تقف سدًا منيعًا في مواجهة حرب التزييف السافرة والمستمرة التي يشنّها الاحتلال ضد الأرض والإنسان.