يعمل مصطفى، في شركة بيع المعدات الكهربائيّة الثقيلة في العاصمة بيروت. يغادرها كل شهر مع زميله في جولة لتحصيل الأموال من الزبائن. قادته تلك الجولة في فبراير/شباط الماضي إلى "حيّ الشراونة" الشهير في بعلبك. لا يؤمن كل ما في ذلك الحيّ بالدولة، التي لا تظهر إلا على شكل مجموعات عسكريّة تداهم حيناً، وتتعرض الى إطلاق النار أحياناً كثيرة. يصدّ تجار المخدرات والسلاح بالرصاص محاولة الجيش مكافحة جرائم الخطف مقابل فدية وسرقة سيارات المارّة على الطريق العام المجاور.
يحفظ أغلب اللبنانيين اسم الحيّ الّذي تلازمه مفردات الحرب. وتظهر أنباء تبادل آل جعفر، وآل زعيتر، الرصاص والقذائف الصاروخيّة بشكل شبه يوميّ عنواناً يومياً في وسائل الإعلام.
غاب خطف مصطفى، وزميله، عن وسائل الإعلام يومها لأنّه فضّل الصمت. لكنّه يتحدّث اليوم عن الحادثة التي جمع فيها الخاطفون مهنتي "تجارة المخدّرات مع عمليات الخطف مقابل الفدية". ظن الشاب للوهلة الأولى أنه على حاجز لحزب الله، يقول "امتثلت لطلب المسلّح وركنت السيّارة". تكثر حواجز، حزب الله، في تلك المنطقة القريبة من قرية عرسال التي يتهمها الحزب بتصدير السيارات المفخخة إلى مناطق نفوذه في لبنان.
نقل المسلحان "الظريفان"، حسب وصف مصطفى، السيارة ومن فيها الى منطقة نائية بعد مصادرة الهواتف، والأموال من السيارات. "هناك عرضوا علينا مشاركتهم تدخين سيجارة حشيشة، وأسهبوا في الحديث عن أوضاعهم الاقتصادية الصعبة، وعدم تمكنهم من العمل بسبب صدور مذكرات توقيف ضدهم". قاد مصطفى، مفاوضات مع ذويه عبر الهاتف، لتستقر الصفقة التي تخللها إطلاق رصاصة واحدة في الهواء للإرهاب على تحويل مبلغ أربعة آلاف وخمسمئة دولار أمريكي عبر إحدى شركات نقل الأموال.
صرف المسلحون التحويلة وكرروا الاعتذار. "وعدوني بإعادة الأموال بعد حل مشاكلهم المالية، وقالوا إنهم سيتواصلون معي على الدوام". يضحك مصطفى، لينهي قصته كما بدأها.
لكن قصة الخطف وزراعة المخدرات لن تنتهي قريباً في لبنان. تمتدّ القصّة على محور بلدات إيعات ــ دير الأحمر ــ الكنيسة، ومحيطها عند سفح سلسلة جبال لبنان الغربية. زرع الأهالي هناك عشرات الكيلومترات المربعة من الأراضي الزراعية الخصبة بنبتتي الحشيش والخشخاش منذ أواسط القرن الماضي لتعويض غياب المشاريع الإنمائية للدولة.
تحوّل كبار المزارعين والتجار الى ما يشبه "روبن هود". لكن "الأبطال" هنا لا يطعمون الفقراء من مال الأغنياء، بل من مال تجارة المخدرات المربحة. وحسب ما علم "العربي الجديد" فإن سعر الكيلوغرام من حشيشة الكيف "يتراوح بين 300 و400 دولار، فيما يتراوح سعر كيلوغرام الهيروين بين 9 و10 آلاف دولار.
يجاهر أبرز تجار الحشيشة والمخدرات بزراعة الممنوعات ويردد أحدهم لضيوفه أنه "لا يخشى إلا الله". يرافق هؤلاء التجار أثناء تحركاتهم مواكب كبيرة من السيارات الممتلئة بالمسلحين لحمايتهم. يتحدث الناس بفخر عن بعض هذه المواكب. أحدها "جاب البقاع خلال حرب يوليو/تموز عام 2006، مر من أمامي في زحلة ". يقول بلال الشاب العشريني، ويتابع: "أكثر من عشرين سيارة رباعية الدفع، بعضها مزود بالرشاشات المضادة للطائرات قطعت الطريق دون أن تجرؤ طيارات العدو الإسرائيلي على استهدافها!"
ينفي هؤلاء التجار كما باقي التجار وجود غطاء سياسيّ لهم، لكنّ الغطاء العشائريّ الّذي تؤمنه العائلات الكبيرة في البقاع كزعيتر وشمص والمولى والمصري وحجولا يعتبر كافياً للزراعة والاتجار والاختفاء خلف العشيرة لمواجهة الدولة.
تتلازم زراعة المواد المخدّرة والاتجار بها في البقاع، لتتداخلا معاً في عالم الجريمة المنظّمة القائم على ثلاثيّة "المخدّرات، السلاح، الخطف". استغّل القائمون على هذه الثلاثية اندلاع الثورة السوريّة وما رافقها من فلتان على طول الحدود اللبنانيّة السوريّة لتطوير تجارتهم.
إلى جانب المخدرات، انتشر في لبنان عمليات خطف أشخاص للمطالبة بفدية مالية منذ عام 2011، وبدأت هذه الظاهرة من اختطاف مجموعة مسلحة سبعة سياح أستونيين في منطقة زحلة البقاعيّة شرقيّ لبنان.
كرّت سبحة عمليات الخطف بعد إطلاق الإستونيين، وقد بلغ مجموعها 68 عملية، حسب إحصائيات قوى الأمن الداخلي اللبناني. واللافت أن الرقم تصاعد، حتى وصل عام 2013 إلى 28 حالة خطف. وأشارت إحصائيات قوى الأمن إلى أن 7 حالات خطف خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام.
وإلى جانب خطف الإستونيين، برزت عمليّة خطف الطيارين التركيين عام 2012 من قلب العاصمة بيروت، وعلى بعد أمتار قليلة من مطار بيروت الدوليّ.
كما شكّلت حادثة خطف الطفل ميشال الصقر (9 سنوات) ابن رجل الأعمال المسيحي، ابراهيم صقر، من أمام منزله في زحلة، ظاهرة فريدة. أطلق الخاطفون سراح الطفل بعد ضغط سياسي من رئيس مجلس النواب، نبيه بري. تدخّل بري حينها لأن العمليّة أخذت بعداً طائفياً.
دفعت عمليات الخطف في لبنان الى الترتيب السادس عالمياً في لائحة الدول التي تعرف عمليات خطف مقابل فدية، حسب تقرير لمجلة "بزنس إنسيدر" لعام 2013.
وفي حين لم يحصد لبنان حتى اللحظة أية مرتبة عالمية على صعيد تجارة المخدّرات. إلاّ ان رئيس مكتب مكافحة المخدرات المركزي في وحدة الشرطة القضائية العقيد، غسان شمس الدين، أشار مؤخراً الى أن المساحات التي زرعت عام 2013 بنبتتي الحشيش والخشخاش بلغت حوالي 40 ألف متر مربع.
وصادر عناصر المكتب خلال العام الماضي 11 مليون حبة "كبتاغون" (حبوب مخدرة) مصنّعة في لبنان في عمليتين فقط، إضافة الى مداهمة مستودعات للتصنيع في البقاع وفي منطقة الشويفات قرب العاصمة بيروت حيث ضبطت آلات تصنيع الحبوب المخدرة.
برز يومها اسم، هاشم علي الموسوي، شقيق حسين الموسوي، النائب في كتلة الوفاء للمقاومة (كتلة حزب الله في البرلمان) كأحد الموقوفين، فسارع النائب للتبرؤ من شقيقه بانتظار التحقيقات.
طرح توقيف الموسوي، إشارات عن تورط مسؤولين سياسييّن وأمنيينّ في ملف تهريب المخدرّات، وزاد الشكوك صور مسرّبة نشرتها وسائل إعلام محليّة لأحد تجار المخدرات المسجون في سجن رومية. يدير الرجل حسابه على موقع التواصل "فيسبوك" من داخل السجن ويعرض وسائل الراحة والاستجمام من تلفاز، وهاتف نقال وسرير وثير وحيوانات أليفة. حتى طلبيات الطعام الفاخر من "السوشي" الياباني الى المشاوي اللبنانية، كانت تصل الى مائدته العامرة في الزنزانة! يُضاف إلى كلّ هذا، الأحاديث التي يتناقلها سياسيّون عن تورطّ زملائهم وضباط كبار لبنانيين وسوريين في هذه التجارة، خصوصاً في عهد الاحتلال السوري للبنان.
تعاطي الدولة اللبنانية مع هذا الملف كان قاصراً. حاربت الدولة زراعة الحشيشة من دون أن تلتفت إلى أنها تُشكّل مورد رزق عشرات العائلات، ولم تؤمن البديل.