بات الوضع في إقليم كردستان العراق مرشحا للتدهور السريع. هذه هي الرسالة التي حملتها أحداث مدينة السليمانية الأسبوع الماضي، والتي أخذت طابع احتجاجات اجتماعية.
في اليوم الأول قام المعلمون والموظفون بمظاهرات من أجل المطالبة بالرواتب التي لم يتسلموها منذ عدة أشهر، وفي اليوم الثاني تطور الموقف بسرعة شديدة في اتجاهين: الأول، انتقال الاحتجاجات من تظاهرات سلمية إلى عنف، إذ أحرق متظاهرون مقرات ومكاتب تابعة للأحزاب الكردستانية والحكومة المحلية، وكانت بلدة "رانيا" المسرح الذي شهد الصدامات الأعنف، وأعلنت دائرة الصحة في البلدة مقتل خمسة مواطنين وجرح نحو ثمانين آخرين في المواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن.
والاتجاه الثاني، اتساع دائرة الأحداث لتشمل عدة بلدات من محافظة السليمانية، مثل حلبجة وبيره مكرون وكويسنجق وپنجوين وسيد صادق التي تحيط بمدينة السليمانية.
ولم تنتظر تفاعلات الأحداث كثيرا حتى تطورت إلى أزمة سياسية، تمثلت في انسحاب حركة التغيير والجماعة الإسلامية من الحكومة المحلية، وطالبتا بتشكيل حكومة إنقاذ وطني، في الوقت الذي تعمل حكومة الإقليم على التحضير لانتخابات تشريعية ورئاسية في غضون ثلاثة أشهر.
واللافت في الأمر هو موقف كل من بغداد وأربيل من الحراك الذي لقي صداه في الشارع الكردي، فرئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، اكتفى بمطالبة سلطات الإقليم بحماية المتظاهرين، بينما كان رد الحكومة الكردية هو اللجوء إلى القوة بذريعة حماية المؤسسات، وشنت حملة اعتقالات في أوساط المتظاهرين الذين تبين أن غالبيتهم من الشباب، وجرى اتهام زعيم حزب الجيل الجديد، شاسوار عبد الواحد، بأنه يقف وراء تحريك المتظاهرين، وجرى اعتقاله وإغلاق قناة التلفزيون التي يملكها (أن تي آر).
أول تفسير جرى تداوله هو أن ما يحصل في كردستان يأتي نتيجة مباشرة للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الحكومة المركزية على الإقليم منذ إجراء الاستفتاء على الانفصال في 25 سبتمبر/ أيلول الماضي، وهذا استنتاج غير بعيد عن الحقيقة. ورغم وجود فرضيات أخرى فإنها تبقى أقل أهمية.
مرت ثلاثة أشهر على الاستفتاء ولا يزال الوضع على حاله ما بين إقليم كردستان والحكومة العراقية. ورغم أن أربيل لم تعمل بنتائج الانفصال الذي فاز بالاستفتاء الشعبي، فإن بغداد واصلت سياسة الهجوم على الطرف الكردي الذي كلما طرق باب الحكومة المركزية ردت عليه بلائحة من الشروط التعجيزية، التي ليس بوسع أي مسؤول أو قوة سياسية كردية السير بها.
والملاحظ أنه كلما ازداد الوضع صعوبة وتعقيدا في الإقليم، رفعت بغداد من لهجتها، الأمر الذي لا يبشر بحلحلة قريبة، بل إن التسوية النهائية تبدو مستحيلة في ظل الأجواء الراهنة المشحونة بالتوتر، رغم الهدوء الظاهري، والمرجح أن الموقف يتجه نحو المواجهة أكثر من التلاقي.
لا يبدو أن لدى الطرف الكردي ما يخسره حاليا، فبعد تجميد نتائج الانفصال، فإن أقصى ما يطمح إليه الأكراد هو العودة إلى الوضع السابق، وكل الرسائل من طرف الحكومة الكردية تنحو في هذا الاتجاه، بعد أن فضّل رئيس الإقليم، مسعود البارزاني، الانسحاب من المشهد من دون ضجيج، وكان ذلك شبه اعتراف بخطأ حساباته السياسية، ولذا تنازل عن القيادة، مفسحا في المجال للحكومة الكردية كي تفتح صفحة جديدة مع بغداد، وهذا موقف عقلاني يحسب له، وعلى بغداد أن تثمنه وتجيره لخدمة إعادة تصحيح الخلل في العلاقات بين المركز والإقليم.
لن تربح بغداد شيئاً إذا ظلت على موقفها المتصلب من الدخول في مفاوضات من أجل الوصول إلى حل مع إقليم كردستان، بل إنها سوف تخسر من بقاء التوتر الحالي وتعطيل الحياة السياسية والاقتصادية في الإقليم. فالإقليم في نهاية المطاف جزء من العراق، والأكراد مكون أساسي فيه، وقد مضى الزمن الذي كان يتم حكم الأكراد فيه بالإكراه والعصا المركزية.
نقطة أخيرة تستحق الوقوف عندها، وهي على قدر كبير من الأهمية، وتتمثل بالموقفين الإيراني والتركي، حيث تضغط طهران وأنقرة من أجل تهميش الأكراد، وقصقصة أجنحة الحكم الذاتي، وهذا يخدم أجندة هذين البلدين، لكنه يضرّ وحدة العراق الذي يستعد لانتخابات تشريعية في الربيع المقبل، كأهم استحقاق بعد هزيمة "داعش".