بعيداً عن المنظور، قريبًا من المحجوب

01 سبتمبر 2015
لوحة للفنان التونسي حسين مصدق (موقع فنون دوت كوم)
+ الخط -
تجتاحني، منذ وقت، فكرة أنحّيها كلّ مرة من ذهني، تقول لي كهاتف هامس: الشرق شرق والغرب غرب. وبما أني أنتمي لبلد لا هو بالمشرقي ولا هو بالغربي، إذ هو غرب المشرق، فإني أحيانًا أتشبّث بالمفارقات التي تمنحني إياها وضعيتي الملتبسة.
مرة وأنا أحاضر في إحدى المدارس العربية العليا للفنون الجميلة، طرحت بشكل مشاكس السؤال الآتي: "أيمكننا عدّ المنظور مكسبًا عالميًا؟". لم يكن حينها في نيتي التنظير لجماليات خلافية أو اختلافية أو مشرقية أو عربية. كان همي الأساسي وضع ابن خلدون مقابل ليوناردو دافنشي. يا لها من مقابلة. إنها تجعلني في موقع قوّة تاريخية لا يمكن لأحد أن يحسدني عليها. وفي الآن نفسه، في موقع ضعف لا يمكن إلا أن أتمنى الخروج منه سالمًا.
إذا قارنّا المنحوتات الفرعونية والمنحوتات الآشورية مثلًا مع نظيراتها الإغريقية، فإننا سنتوصل مباشرة إلى الطابع المؤسلب للأولى (أي طابعها الرمزي) مقارنة مع الطابع المحاكاتي المرجعي للثانية. هنا بالضبط مكمَن الخلاف والاختلاف. الشرق يؤسلب العلاقة بالواقع ويخضعها للزخرفي ومن ثمّ للرمزي، فيما يسعى الغرب إلى أن يجعل من الأداة الراسمة استكناهًا للمرئي ومرآة لوجوده.
حين تمّ ابتكار المنظور في بدايات القرن 15، كان ذلك متوائمًا مع الطفرة العلمية والرياضية التي تؤمن بأن العلم قادر على الإمساك بالعالم واستكناه بنيته. لم يكن المنظور مكوّنًا من مكونات الواقع، وليس علينا أخذه على أنه كذلك. إنه بالأحرى محاولة ضبط لتصوير الواقع أو ما يسمى بلغة فلسفية تمثيله، representation. لن نستفيض في القول إن مشكلة الفنّ الغربي بكامله، مشكلة التمثيل، وإن ثورة نيتشه وهايدغر، ثم سارتر وجيل دولوز وجاك دريدا، وغيرهم، كانت متصلة بمسألة تفكيك التمثيل، أي الأصل والمرجع في طابعهما الميتافيزيقي، سواء أكانا الواقع النموذجي للمحاكاة أم النموذج المثال الذي تفرضه الأساطير والديانات.
الأصل مفهوم ميتافيزيقي بامتياز، لأنه يتحكّم في تصوّرنا للمرئي واللا مرئي. وسواء أكان هذا الأصل مرئيًا (الجسد الإنساني باعتباره مرجع البورتريه مثلًا) أم غير مرئي (الحسّ الديني)، فإن التعبير الفني عنه، إن خضع لمعيار الأصل والمرجع، فسيخضع بطريقتين: إما التماهي مع الرؤية الدينية التي تعدّ آدم سابقًا على عصر الديناصورات؛ أو التوافق مع المعطيات الهندسية والرياضية التي تجعل ما يكون قريبًا بالضرورة أكبر حجمًا (في تمثيله وتصويره) مما هو بعيد.
إنها قضية المنظور أو ما يمكن أن نسميه وهم المسافة في التصوير عمومًا. وربما هنا يكمن سحر التصوير تحديدًا لأنه يجعلنا نتوهّم أننا نرى الواقع المرئي، وما هو في الحقيقة بواقع مرئي، هو فقط بناء هندسي لمكوناته البصرية والطوبولوجية.

اقرأ أيضاً: حين يكون الفن نافذة على التاريخ

هكذا بنى الغرب وهم امتلاكه المرجع والأصل، وحلّ مشكلة التصوير والتمثيل المماثل والمحاكي لواقع مفترض؛ محققًا بذلك سبقًا كبيرًا، بل قطيعة حاسمة مع التجربة الشرقية التي لم تهمها أبدًا المطابقة والتماهي ومبدأ الهوية المتحكّم بين الصورة والمرجع، بقدر ما تهمها الإشارة والإحالة والترميز. لكن أهو حقًا تقدّم تاريخي أم فقط اختلاف تاريخي؟
لماذا عدّ هيغل مجد الفن الإنساني وعظمته لا يتجسدان في الفن الإغريقي، ولا في فن النهضة بطابعهما المحاكاتي والمنظوري، بل في الفن المصري الفرعوني بطابعه المسطح الذي لا يبتغي الدقة المنظورية (رغم وجودها الأولي) بقدر ما يبتغي الإحالة؟ أكان هيغل ضحية خداع تاريخانيته؟ ولنطرح السؤال بشكل آخر: لماذا نجد في التماثيل والمنحوتات والتصاوير المصرية والآشورية واليابانية والهندية الكثير من السحر والفرادة، اللذيْن قل أن نجدهما في التصاوير النهضوية الخاضعة بشكل أو بآخر للمنظور المقنن والهندسي؟
المنظور ابتكار لا يهمنا تاريخيًا إلا بقدر ما يشكّل محطة من تطوّر الفن العالمي. قد ندرّسه لطلبتنا، وقد ندين له بجعلنا نمسك ببنية منظر أو معمار ما، إلا أن طابعه لن يتجاوز هذا الجانب التقني. والدليل أن التحطيم الذي قام به بيكاسو لهذا المبدأ الدكتاتوري العقلاني في الفنّ، كان بفضل اكتشافه الفن الأفريقي.
لقد كان لبيكاسو وللسورياليين، كما لحركة كوبرا، الفضل في اكتشاف فنّ مغاير للفن القائم على المنظور، هو الفن الخام أو الفطري. بالمقابل، فإن هذا أمر يلائمنا تمامًا، لا لأننا ندين لهؤلاء بوجودنا الفني والجمالي، وإنما لأننا أبناء حضارة لا علاقة لها بالمنظور.
كيف ذلك؟ نظرة بسيطة إلى ما يشكّل هويتنا البصرية التقليدية، أو الكلاسيكية (بلغة فقهاء الفن) تكفي، لتجعلنا نقتنع بأن نظرتنا الفنية مسطحة، وأن تشخيصيتها تعبيرية تعطي المثَل ولا تبتغي التمثيلية، وأن الغرض منها مسايرة الحكي، لا الحكي بحدّ ذاته. نحن أمّة لا تحكي بالصورة بقدر ما تجعل الصورة ذريعة للحكي أو فاكهة اشتهاء له. الصورة لدينا مهما كانت درجة شهوانيتها وإباحيتها، لا تقول بقدر ما توحي. واقعيتها لا تستجدي المرئي بقدر ما تداوره، لتستدرج ما لم يُر بعد وما لا يخضع للمنظور، أي ما لا يدخل في النظام الممكن للمرئي وسلطته. لكن ما الذي لا يدخل في المنظور؟ إنه المحجوب.
تنبني حضارة الإسلام، وبشكل ما حضارات الشرق الأقصى، على الحجْب والمحجوب الذي يتطلب قراءة وتأويلًا، وقد تطور في التصوف وجعل مآل الفكر والنظر يتمّان في البحث عن مجهول الوجود ومحْجوبه. لذا كانت الزخرفة الإسلامية بتشابكاتها، كما الخط بتجريديته، استدعاءً لهذا المحجوب ومساءلةً له. كما أن التصوير بغير المنظور - حتى في أبسط أشكاله - في المنمْنمة، يجعلنا أبعد ما نكون عن مسألة "الحداثة" والعقلانية التصويرية.
إنه بُعد يلزمنا استثماره جماليًا إذا أردنا بناء "جماليات محلية"، لنحرر أنفسنا من إمبريالية المفاهيم ومن طابعها الكوني المزعوم. فإذا كان المنظور يحيل إلى المرئي، فإن المحجوب يحيل إلى اللا مرئي. وثمة سبيلٌ قد يكون علينا المغامرة فيه لبناء تصوّر جديد لمرآتنا الجمالية.
المساهمون