لو استعرض علي النعيمي فترة عمله وزيراً للبترول السعودي فربما شعر بأن الأحداث قد دارت دورة كاملة.
فبعد عامين من توليه المنصب عام 1995 ليصبح وزير البترول الرابع بالمملكة فقط في 40 عاماً، دفع النعيمي منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) إلى اتفاق لم يحالفه النجاح في إندونيسيا ينص على زيادة الإمدادات في وقت دخلت فيه آسيا في هبوط اقتصادي حاد.
واعتبر القرار، الذي كان يهدف لمعاقبة فنزويلا بعدما ضربت بحصتها الإنتاجية عرض الحائط، في عرف أوبك أسوأ تقدير على الإطلاق في تاريخ المنظمة، وهوت الأسعار بمقدار النصف إلى عشرة دولارات للبرميل.
وبعد أكثر من عقدين من الزمن يواجه النعيمي (80 عاما) أزمة جديدة تتعلق بالإمدادات هوت بالأسعار إلى أدنى مستوياتها في ست سنوات، إذ نزلت دون 40 دولاراً للبرميل لتصبح أدنى من ذروتها قبل الأزمة المالية عام 2008 بأكثر من 100 دولار.
ومثلما حدث في جاكرتا عام 1997 فقد حدث الهبوط الحاد الحالي بتنسيق من النعيمي ولنفس الهدف: وهو الدفاع عن الحصة السوقية السعودية في مواجهة المنافسين وعلى رأسهم هذه المرة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة.
وطوال مشواره المهني سعى النعيمي لتجنب تكرار خطأ الوزير السابق أحمد زكي يماني، الذي أقيل عام 1986 عقب فشله في التصدي لانهيار أسعار النفط بخفض الإنتاج السعودي بشكل أحادي.
وبدلا من ذلك كان النعيمي، على مدى ثلاث موجات هبوط في أسعار النفط، يختار دوما استغلال إمدادات بلاده الهائلة من النفط وقدراتها المالية لإزاحة المنتجين أصحاب التكاليف المرتفعة، وتنتج المملكة أكثر من 10% من النفط العالمي.
واستراتيجية البقاء للأقوى تلك تعني رفض خفض الإنتاج بشكل أحادي والصمود لأبعد مما يمكن أن يتحمله المنتجون الآخرون قبل أن يتوسلوا للرياض للتعاون في تخفيضات مشتركة للإمدادات من أجل إنقاذ الأسعار.
وقال غاري روس، وهو مراقب مخضرم لشؤون أوبك ومؤسس بيرا إنرجي الأميركية: "أراد النعيمي في كل شيء فعله عدم تكرار خطأ يماني".
وتابع روس، الذي شارك في أول وآخر محادثات ناجحة بشأن التعاون النفطي بين أوبك وروسيا في مطلع عام 2000: "كان مستعدا لإدارة السوق وخفض الإنتاج فقط عندما يجد شركاء عقلانيين".
* تجنيد روسيا
ويدقق المراقبون لسوق النفط في كل كلمة تصدر عن النعيمي وكذلك في أفعاله الماضية لمحاولة التنبؤ بالطريقة التي سيتصرف بها الخبير المخضرم البارع في المناورة، فقد كان دائما يجد وسيلة للتحرك بشكل مشترك مع المنتجين الآخرين بدلاً من خفض الإنتاج بشكل منفرد.
اقرأ أيضاً: السعودية: الطلب على النفط سيستوعب زيادة إنتاج إيران
وبعد تهاوي سعر النفط عام 1997 قاد النعيمي أوبك في نهاية المطاف للخروج من الاضطرابات بعدما رتب سلسلة من التخفيضات ومع دعم إيران، الخصم اللدود للمملكة، للاستراتيجية في ظل تحسن العلاقات السياسية، في الوقت نفسه ساعدت المكسيك غير العضو في أوبك في إشراك فنزويلا في ذلك.
وفي 2001، وجد النعيمي حلفاء جدداً بعدما تعهدت روسيا المنافس الرئيسي لأوبك، بعد شهور من المواجهة، بالانضمام إلى التخفيضات قبل أن تتراجع عن وعودها لاحقا.
وفي 2008 سارع جميع أعضاء أوبك إلى تأييد تخفيضات في الإمدادات قادتها السعودية مع تهاوي أسعار الخام في أعقاب الأزمة المالية العالمية.
ونتيجة لذلك تعافت الأسعار سريعاً مما وفر رأس المال لاستثمارات جديدة في تقنية التكسير الهيدروليكي المثيرة للجدل التي أدت إلى قفزة هائلة في إمدادات النفط الصخري الأميركي.
وتسبب هذا المصدر الجديد للإمدادات إلى جانب التباطؤ في الصين في أحدث موجة هبوط للأسعار.
وتقول مصادر في قطاع النفط السعودي إن: "النعيمي سيتمسك هذه المرة بسياسة إبقاء مستويات الإنتاج مرتفعة حتى إذا واصل سعر الخام الهبوط إلى أن يجد شركاء مستعدين للتعاون".
وكان النعيمي قد قال لنشرة ميدل إيست إيكونوميك سيرفي (ميس) العام الماضي: "إذا هبطت الأسعار فلتهبط .. لا يمكنك فعل شيء حيال ذلك.. لكن الآخرين سيتضررون كثيراً قبل أن نشعر بأي تأثير"، في أوضح تفسير لطريقة تفكيره حالياً.
ولم يستجب النعيمي لطلبات لإجراء مقابلة معه من أجل هذا التقرير، لكن سجله الذي يظهر تمسكه الشديد بموقفه إلى أن تنضم دول أخرى إلى المملكة من أجل تحرك مشترك ينبئ بالكثير مما لم تعبر عنه الكلمات.
وقال ياسر الجندي من ميدلي غلوبل أدفايزورز: "لا يمكن هزيمة الخبرة والنعيمي يتمتع بقدر كبير منها.. لقد أثبت جدارته في السبعينات والثمانينات في أرامكو وعايش حتى الآن ثلاثا من دورات أسعار الخام ( في مطلع الثمانينات وأواخر التسعينات والدورة الحالية)".
وتتمثل مشكلة النعيمي الآن في أنه يبدو أكثر عزلة من أي وقت مضى، ويصفه مؤيدوه ومنتقدوه على حد سواء بالخبير الفني الكبير وقد حظي بالاحترام في الصناعة لقيادة سياسة أوبك مع تجنب السياسة حينما كان ممكنا.
لكن في الشرق الأوسط لا يمكن الفصل دائما بين السياسة والنفط، وعندما تنشط السياسة يكون حتى المفاوض الأكثر براعة عرضة للخطأ في الحسابات.
وصمدت أوبك في مواجهة صراعات داخلية مرات عديدة قبل نشوب حروب بين دول أعضاء، الحرب بين إيران والعراق في الثمانينات وغزو العراق للكويت في التسعينات، وكلاهما قبل أن يتولى النعيمي مسؤولية وزارة النفط السعودية، لكن الصراعات السنية الشيعية التي لم يسبق لها مثيل في فترة تولي النعيمي للوزارة تضع الآن السعودية وإيران في خصومة دائمة في مناطق مثل سورية واليمن.
علاوة على ذلك بات العراق، الذي تهيمن عليه أغلبية شيعية حليفاً فعلياً لإيران داخل أوبك منذ أطاح الغزو الأميركي بصدام حسين من السلطة وتملك الدولتان إمكانات هائلة لزيادة الإمدادات.
وفي خارج أوبك تختلف روسيا مع الرياض بشأن الصراعات في الشرق الأوسط وانضمت إلى الحرب في سورية قبل شهرين لدعم الرئيس السوري بشار الأسد حليف إيران.
وفي الوقت نفسه يعتقد كثير من السعوديين أن طفرة النفط الصخري الأميركي دفعت واشنطن إلى إعادة تقييم التزامها العسكري في الشرق الأوسط الذي تقدم بموجبه الحماية للرياض في مقابل تأمين إمدادات النفط.
وبدت توترات أوبك في اجتماع المنظمة الأسبوع الماضي عندما أخفقت في الاتفاق على سقف الإنتاج لأول مرة منذ عقود، إذ قالت إيران إنها تعتزم زيادة الإمدادات بشكل كبير بعد رفع العقوبات الغربية المفروضة عليها العام المقبل بينما قال العراق إنه سيزيد الصادرات أيضا.
وقال وزير النفط الإيراني، بيغن زنغنه للصحافيين بعد الاجتماع: "تنتج بعض الدول الأعضاء الكمية التي تحلو لها"، في إشارة واضحة للسعودية، وأضاف: "إيران ليست بحاجة إلى إذن أحد لزيادة إنتاجها".
وقال مسؤول تنفيذي بشركة نفط كبرى إنه: "بينما خطط النعيمي في مواجهة النفط الصخري الأميركي تؤتي ثمارها إذ بدأت أسعار النفط المتدنية في خفض إنتاج المنافسين فقد أدت عودة إيران إلى تفاقم تعقيد المشهد.
وأضاف المسؤول: "أحيانا يبدو أن السعوديين أخطأوا في حساب تقدير مدى سرعة توصل إيران للاتفاق النووي والعودة إلى الأسواق".
اقرأ أيضاً: أوبك تفشل في الاتفاق على سقف إنتاج النفط
* تغييرات في الداخل
في سن 12 عاماً انضم النعيمي إلى شركة النفط السعودية العملاقة أرامكو وركب على ظهر شاحنات مكتظة للوصول إلى العمل، وبعد سنوات قليلة في العمل نال إعجاب مديري أرامكو بعدما كشف عن طموحه لإدارة الشركة.
وأصبح النعيمي رئيسا لأرامكو عام 1983 ورئيسا تنفيذياً عام 1988، وهو أول سعودي يتولى المنصبين اللذين تولاهما في السابق أميركيون في شركة النفط العربية الأميركية.
وكأحد أرفع الشخصيات من خارج الأسرة المالكة في السعودية، تحول النعيمي تدريجياً من وجه حذر في العلن إلى صانع سياسة صريح نظراً لما يتحمله من مسؤولية كاملة ومنفردة في رسم السياسة النفطية السعودية، مما يجعل أسواق النفط معلقة بكل كلمة يتفوه بها.
ومع إرهاقه من اجتماعات أوبك المتعددة سنوياً، ألقى باللوم على الصحافة لإخفاقها في فهم كلماته ووصف الصحفيين "بعوامل اضطراب".
وقال روس مؤسس بيرا إنرجي الأميركية: "يريد النعيمي أفضل سعر وأفضل معدلات لبلاده.. فيما يتعلق بالصورة مع وسائل الإعلام.. لا أعتقد أنه يبالي حقاً".
وكانت التغييرات السياسية التي حدثت هذا في العام 2005 هي الأعمق التي شهدها النعيمي مع تصعيد الملك سلمان لجيل جديد من القيادة مع تولي ابن شقيقه الأمير محمد بن نايف منصب ولي العهد وتولي ابنه الأمير محمد بن سلمان منصب ولي ولي العهد.
وأصبح الأمير محمد بن سلمان (30 عاما) صاحب القرار النهائي في قطاع النفط في أبريل/نيسان الماضي، وفي الشهر الماضي قال إن: "المملكة تعمل على خفض الدعم وفرض ضرائب جديدة من أجل أن تتحمل الميزانية انخفاض أسعار النفط لفترة أطول".
وفسر بعض الأشخاص هذا على أنه إشارة لدعم سياسات النعيمي، لكن آخرين يقولون إن الأيام التي كان فيها صوت النعيمي هو الصوت الوحيد على ساحة سياسة النفط السعودية ربما تكون قد ولّت.
وقال أحد المطلعين على بواطن الأمور إن: "مؤشرا على أن رياح التغيير قد تهبّ قريباً هو أن التعليقات على السياسة النفطية لا تأتي من النعيمي وولي ولي العهد فحسب لكن تأتي أيضا من رئيس أرامكو خالد الفالح وأيضاً من ابن آخر للملك سلمان وهو الأمير عبد العزيز وهو نائب للنعيمي منذ أمد بعيد".
وقال المصدر المطلع، الذي طلب عدم نشر اسمه: "يبدو الأمر وكأن هناك أربعة وزراء بترول في السعودية الآن.. الكل يتحدث عن السياسة النفطية وينصّب نفسه متحدثا باسم صناعة النفط.. ينبغي ألا يتحدث سوى النعيمي فقط لأنه الوزير.. لكنه يفقد نفوذه شيئا فشيئاً".
اقرأ أيضاً:
صراع الحصص يزيد مخاوف انهيار أسعار النفط
أسعار النفط ترتفع وتترقب قرارات أوبك