لا يفرق القاتل بين عربي وغيره، فهجمات لندن ونيس وإسطنبول وتوركو في فنلندا وبرشلونة الإسبانية، تشير إلى أن القاتل لا يعنيه من يقتل، ولا يعني مشغليه أي جحيم تدفع إليه الجاليات، التي يتربص بها يمين متطرف يستمد قوته من أفعال يدعي منفذوها أنها تتم دفاعا عن الإسلام.
ومثلما ما تزال آثار الضربات المتلاحقة تؤثر في وضع مزيد من الشكوك حول مئات آلاف اللاجئين القادمين إلى القارة الأوروبية منذ عامين، وذهاب يمين متشدد لاستلهام اتهامات "الإرهاب" بحقهم، توسع الأفعال الأخيرة من الدائرة لتطاول ضرب عصب التعايش والاندماج وتوسيع الشكوك بحق ملايين العرب، وغير العرب من أصول مهاجرة.
"تعرضت ابنتي أمام المارة لمحاولة دهس بعد هجوم برشلونة، فصرخت بالسائقة الإسبانية الغاضبة والشاتمة للمسلمين:هيا ادهسيني وكوني مثلهم، ماذا تنتظرين؟"، هكذا تصف المواطنة الإسبانية منذ 25 سنة، من أصل مغربي، مليكة بومدين، لـ"العربي الجديد" كيف أنها باتت تلمح المتغيرات. فهي كأم لولدين تتولى كامل أعباء تربيتهما عن طريق عملها كموظفة في بلدية الكوبنداس في مدريد، بمكتب "مكتب اندماج الامرأة" باتت تشعر "بحزن كبير وبخوف حقيقي. الحزن هو على الضحايا الذين قضوا في برشلونة، وعلى المجتمع الإسباني الذي أحبه وأحترمه، والحزن العميق على من يسقط ظلما في سورية، ولا أحد يذكره أو يهتز له جفن".
تعمل مليكة موظفة في البلدية منذ 14 سنة وترى في الإسبان "شعباً طيباً ويعاون الغريب ونسبة العنصرية كانت قليلة جداً، لكني أشعر الآن بخوف حقيقي مع تزايد هذه العنصرية إثر الهجمات التي ضربت أوروبا، وخصوصاً الأخيرة في برشلونة".
وبالرغم من أن المجتمع الإسباني، وخصوصاً برشلونة، يُعرف بالانفتاح وتنوع الجنسيات، ومن ضمنها الجالية المسلمة التي تعتبر من الجاليات الفعالة والمؤثرة في حياة المدينة واقتصادها، إلا أن ما جرى الأسبوع الماضي يلقي بظلاله غضبا وارتفاعا في منسوب الشعور بالعنصرية، والدعوات الى ترحيل المسلمين، وازدياد التصرفات الفردية السلبية، والكتابات بطابع نازي على شبكات التواصل الاجتماعي، ما ولد لدى المسلمين حالة من الخوف والرعب، وعدم الإحساس بالأمان والثقة بالمستقبل.
وبالنسبة لسيدة عرفت مجتمعها الإسباني، وخبرت المهاجرين في وظيفتها، فإن قلقها كما تراه "مما بت ألمحه في نظرات الازدراء والكره في عيون عابرة. و أرى أننا نحن المسلمين الذين نعيش في إسبانيا، أكثر الضحايا الذين سيدفعون ثمنا لما لم يقترفوه، وخاصة النساء المسلمات المحجبات".
تروي مليكة ما حدث لها شخصياً بعد هجوم برشلونة وكيف حاولت السيدة دهس ابنتها الإسبانية المولد (20 سنة) وصدمتها كأم "لقد صرخت بالكثير من الشتائم للمسلمين في كل العالم، أنا مفاجأة جدا، لأن إسبانيا بالذات عرفت أن الإرهاب لا دين له، فمنظمة إيتا الإرهابية لم تكن من المسلمين والعرب، بل من الإسبان أنفسهم، وقتلت منهم أضعاف ما قتلته كل الهجمات الإرهابية الأخيرة في أوروبا". لا تخفي مليكة خوفها فتضيف "لا أدري كيف ستسير الأمور، لكني بت أخاف على ابنتي، وعلى ابني، اللذين ولدا وترعرعا هنا، واللذين يريان نفسيهما مواطنين إسبانيين، وهذا مؤلم وغير عادل".
إدانة في دولة القانون والحريات
أما رئيس المنتدى الثقافي العربي في مدريد، عبدو التونسي، المؤمن دائما بالحوار الثقافي وبالتعددية الثقافية فيقول: "لقد قامت العديد من المؤسسات المهتمة بشؤون الجالية المسلمة في إسبانيا بشجب ما حصل في برشلونة، ومنها المنتدى الذي أصدر بيانه بعد ساعتين من الهجوم، ودعت إلى الخروج في مظاهرات كبيرة لرفض هذه الأفعال غير الإنسانية، وآخرها خرجت في إشبيلية وحملت شعار "ليس باسمي"، كأكبر دليل على أن ما يحصل لا يمكن إلباسه بالدين الإسلامي".
ويرى التونسي أن العالم يعيش فوضى مرعبة، وتغيرات سياسية مفاجئة، و"الإرهاب لا يميز أحدًا، فهو كناية عن ثقافة العجز والموت، ومواجهته تحتاج إلى بناء درع روحي وثقافي ومعرفي للمجتمعات، ليتلقى الضربات ويمتصها، ويمتص أهدافها العنصرية، ويحاول أن يوجه الأنظار عن المستفيدين من هذه الأفعال المجنونة، ويزرع الكراهية".
ويؤكد التونسي أنه خلال 44 سنة من حياته في إسبانيا "لم أشعر قط بالخوف، أو بالعنصرية، كوني مسلما أو عربياً، وبرأيي ليس هناك أية أسباب للخوف، بالرغم من كل ما يقال، ويشاع، أعتقد أننا في دولة القانون والحريات".
من ناحيته يقول الصيدلاني الإسباني، مانويل خوسي، لـ"العربي الجديد" إن "المجتمع الإسباني عرف الحرب الأهلية، وذاق طويلا مرارتها، وكانت كل الأطراف إسبانية، كما أنه عرف الاستبداد من خلال عقود الديكتاتور فرانكو، ثم عرف بعدها إرهاب منظمة إيتا، لذا فإن الشعب الإسباني اكتشف بنفسه بعد كل هذا، أن لا شيء ينقذه سوى ثقافة التسامح، وأنه يريد دائما العيش بسلام، لأن السلام هو أثمن ما يمكن أن يمتلك، وهذا ما جعل إسبانيا تقبل العدد الكبير من المهاجرين، وتعاملهم قانونياً على أنهم مواطنوها من خلال إعطائهم حق الضمان الصحي الكامل، والدخول في برنامج الرعاية الاجتماعية".
ويعتقد خوسي بأن ما حدث في برشلونة "سيكون هزة قوية للمجتمع، لكنها ستنتهي بسرعة، ولا أعتقد أبدا أن لها آثاراً مرعبة كما يشاع، لأن الإنسان الاسباني عليه أن لا ينسى ماضيه، وأن يحاول فهم أسباب ما يحدث، فكلنا مسؤولون عما يحدث في سورية مثلا، كلنا صمتنا عن شعب عريق يباد لست سنوات متتالية، وهذا سيزيد من الإحساس العام بعدم العدالة، وهو أخطر إحساس يحول الإنسان إلى وحش. إن ثقافتنا في جزء كبير منها تعود للثقافة العربية التي أثرت فينا كثيراً، والتي نعتز بالكثير مما تركته لنا، وعلينا جميعا التعامل بمسؤولية كاملة الآن تحديدا، مع كل كلمة نطلقها، وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، وكل من موقعه، عليه أن يخمد النار، لا أن يزيد اشتعالها".
المرشدة الاجتماعية في مدرسة برشلونة، ماريا مارتييث، تقول لـ"العربي الجديد" إنها عرفت الشباب المتهمين بالأعمال الأخيرة: "فقد كانوا أطفالا جميلين وأذكياء، وكنت أحبهم فعلا، هم مثل أطفالنا، وأنا الآن بقدر حزني على الضحايا الأبرياء، حزينة جدا على هؤلاء الشباب، ولا أدري كيف تحولوا إلى هذا، وكيف خسروا أحلامهم، لقد كان يوسف يحلم أن يصبح طيارا، أما يونس فقد كان يريد أن يعمل مع منظمات المجتمع المدني، لا أدري أين الخطأ، وهل نحن لم نفهم جيدا، هل عانوا من ظلم ما لم نشعر به، من الذي استغل ضعفهم، واستغل يأسهم الاقتصادي، وحملهم بكل هذه النار التي قضت عليهم، وعلى عائلاتهم الطيبة البسيطة، وعلى حياة المئات من حولهم".
مدرسة اللغة الإسبانية، الينا لوبيث، هي مسؤولة في جمعية "الحصان الأخضر" الداعمة للمهاجرين واللاجئين في إسبانيا. وقفت يوم الأربعاء الماضي 23 أغسطس/آب مع أفراد الجمعية في قلب ساحة سول في العاصمة مدريد مشكلين ما يسمى "دائرة الصمت" التي وضعوا فيها صورا لعدد من الأطفال الذين قضوا غرقا في البحر أثناء محاولاتهم الفرار من الحرب في بلادهم، حاملين لافتات كبيرة تذكر بأسباب وجود المهاجرين، تقول لـ"العربي الجديد": "إننا حزينون جدا على ضحايا برشلونة، لكننا يجب أن لا ننسى أن كل حكومات العالم مساهمة في صناعة الإرهاب، فعندما تغلق الحدود في وجه الفارين من الحروب، وتجعلهم يضطرون إلى المغامرة بأطفالهم في قوارب مطاطية قاتلة في عرض البحر، ثم يخسرونهم في طريق الهروب، فهذا أيضا إرهاب حقيقي ومنظم".
وتضيف هذه المدرسة المخضرمة "علينا أن نفكر بكل هذا، وأن لا ننساه في محاولات التفكير في القضاء على الإرهاب. نقف هنا اليوم ولنصنع دائرة الصمت تحديدًا كي نخفف من الاحتقان الذي خلفه الكثير من الكلام غير المسؤول، والجاهل، حول ما جرى في برشلونة، والذي يجعلنا نعود ونظلم أناسا بريئين لمجرد أنهم ينتمون لدين معين، وهذا أيضا إرهاب عرقي جديد وخطير، وسيحرق من جديد آلاف القلوب".
تختم لوبيث حديثها الموجه للجميع، في وقت تتنامى فيه دعوات طرد العرب والمسلمين من إسبانيا، بالقول "الأرض ملك لكل من عليها، ولا يمكن أن نحاسب أو ندعو لطرد أناس يشاركونا في الحياة منذ العديد من السنين، وأن ندعي أننا الملائكة التي لا تخطئ، جميعنا مخطئون حين نرى ما يحصل في البحر ونصمت، كأنه لا يخصنا، أنا أريد أن أقول للعالم وللمجتمع الإسباني إن هذا الملح الذي ابتلع هؤلاء الأطفال لن يغفر لأحد".