بعد الاغتيال، قبل البطولة

29 سبتمبر 2016
+ الخط -
هناك مسافةٌ ضئيلة للغاية، توجد بعد واقعة الاغتيال (لأسباب فكرية أو سياسية)، وقبل تحوّل القتيل إلى "البطل"، مسافة ضئيلة إلى درجة أنه يصعب تمييزها، فضلاً عن التموضع فيها. ضئيلة للغاية بحساب الزمن، إذ فور وقوع هذا النوع من الاغتيالات، يتحوّل القتيل إلى بطلٍ رمزيّ، كما حدث بعد اغتيال ناهض حتّر (رحمة الله عليه)، عندما سارع كثيرون ممن صدمهم الحادث إلى رثاء "الرّسام حتّر" شهيد الحرية الفكرية، لأنهم لم يأخذوا، حتى بضع ثوانٍ، للتعرّف على مجال نشاط الرجل الذي كانوا يسمعون باسمه للمرة الأولى في ذلك الصباح. وهي مسافةٌ ضئيلةٌ للغاية بحساب المواقف، فعلى الرغم من أن الموقف من اغتيال شخصٍ ما (لا يُساوي) الموقف من أفكاره، قاعدة ترتقي إلى مستوى البداهة، إلا أنها، عملياً وبالممارسة، ليست كذلك، فالجُملة التي عبّرت عن رفض اغتيال حتّر قرأها مسلمون كثيرون ساخطون هكذا "أنا معجب بآراء الرجل وبذلك الرسم الكاريكاتوري". وعلى الوجه الآخر من العُملة نفسها، تعرّضت إلى إساءة القراءة تلك الجُملة التي حاولت أن تُذكّر أن حتّر، ولو ذهب ضحية للاغتيال الفكري والتطرّف الديني، إلا أن أفكاره لم تكن نقيضاً للعنف، ولا تصحّ ترقية الرجل ليحتلّ محلّ "الـمُفكّر العلماني المستنير"، بوصفهِ نقيضاً لقاتله. هذا النوع من التنبيهات أيضاً قرأها عربٌ كثيرون تأييداً لاغتيال الرجل واستهانة بدمه. وإذ تتضاءل المسافات وتتداخل المواقف بهذه الطريقة، يصبح التّمييز ترفاً والدقة فائضةً عن الحاجة، وتصير قضية الحرية أشدّ تجريداً، وتحديدها والدفاع عنها أكثر صعوبةً، ما بين جمهورٍ لا يزال جُلّه مقتنعاً بقتل الـمُرتدّ وسجن المعتدي على المقدسات، وأبطال رمزيين للحرية هم أقل الناس إيماناً بها وقدرة على تمثّلها، أبطال للحرية والتنوير من صنف حتّر: ثوريّ عاشق لديكتاتورية الأسد وحربه الوحشية على المواطنين، يساريّ يحتقر أهل الأرياف من اللاجئين السوريين، مُمانع وضد وجود اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، وعلمانيّ يعتقد بحلولية الله جلّ جلالهُ في مليشيا حزب الله، وهي تشارك في قتل السوريين.
تتمثل مأساة العُنف المتجاوزة للفعل العنيف نفسه في قدرة العُنف على خَلط (وإرباك) ما بعده. وتتضاعف المأساة في النموذج العربي الذي تغمره أزمة تنافس مصادر العنف فيه: عنف السلطة، مهما كان نظام الدولة، عنف المليشيا أياً كان مذهبها، عنف المتديّنين، عنف العلمانيين، عُنف الأكثرية، عُنف الأقلية. حالة العُنف عامة وشاملة ومُتجاوزة للأيديولوجيات، والتنافس بين الجبهات المختلفة على موارد ممارسة العُنف وأدواتها، أكثر من كونه تنافساً بين العنف
واللاعنف. يجد العربيّ، وهو يواجه هذا المشهد، أن خياراته الملموسة تتمثل في الاختيار بين العنيف والأعنف، العنيف ضدنا أو العنيف من أجلنا، العُنف الراهن أو العُنف المؤجّل، العنف ممارسةً أو العنف مبدأ. هذه هي الخيارات العادية التي وجد نفسه أمامها عراقيّ في الموصل، اضطر للاختيار بين داعش أو الحشد الشعبي، أو مصري دُفع إلى الاختيار بين الإخوان المسلمين أو الجيش، على سبيل المثال. ولطالما كان الخوف من العنف، أو الغضب العاجز أمامه، أفضل أداةٍ تجميليةٍ تستخدمها الخيارات القبيحة. تلاعبت أغلب الحكومات العربية بخوف الناس من إرهاب القاعدة وداعش لتستعيدهم إلى حظيرتها، وخلال الربيع العربي، بعد ارتفاع قمع السلطة الذي كان يُجمّل المعارضات العربية، ويمنح خطابها تماسكاً وصدقية، انكشفت عورتها وعجزها عن أن تكون بديلاً حقيقياً، كما وقع للإخوان خلال حكمهم القصير في مصر، وكما هو حال مجلس المعارضة السورية في الخارج، وفي تجربة المعارضة الكويتية التي قادت حراك الشارع من أجل الحرية والكرامة، حتى توصلت إلى تشكيل أغلبية البرلمان، فكان من أول قراراتها تشريع قانون "لإعدام المسيء للذات الإلهية والرسول وأمهات المؤمنين".
ولطالما منح العنف الديني، والمحاكمات والتهديد بالقتل على الرأي، قيمة لأتفه الكُتّاب، وفُرصةً مجانيةً للفاشيين منهم، ولعَبَدة البساطير والأنظمة، ليتقمّصوا دور رُسُل التنوير وأنبياء الحرية، وخلوداً لنصوصٍ هذيانيّة. العُنف لا يُزيّف الواقع فقط، عبر دفع الناس إلى التقيّة والادّعاء، بل إنهُ يُزيّف الخيارات، يمنح قيمةً أعلى لخياراتٍ قيمتها أقل، ويقدّم لخياراتٍ عنيفة صكّ براءة من العُنف، لا تُقدّر قيمته بثمن. بهذا المعنى، لا بد أن تشتمل مقاومة العنف على مقاومة هذه الطاقة التزييفية للعنف، هذه القدرة على الخلط والقسر والشعور بضغط ملزم للانحياز إلى العنف الحليق أو العُنف الملتحي. مقاومة العنف في عالمنا لا بُدّ أن تشتمل على إصرارٍ على التموضع في تلك المسافة الضئيلة للغاية التي تمرُق بسرعة بين لحظة العنف ولحظة البطولة والترميز وشهادات البراءة. إذ ليس من الصعب، على الإطلاق، أن يقول المرء إنه ضدّ قتل ناهض حتر أو سجنه أو تهديده بسبب ما يعتقده وما ينشره (مهما يكن هذا المنشور)، لكنه، في الوقت ذاته، لا يرى في حتّر رمزاً نقيضاً للعنف والتطرّف، على الرغم من أنهُ ذهب ضحيتهما.
لا يضعنا اغتيال حتّر في مواجهة مأساة العنف وحدها، بل أيضاً بإزاء مأساة التنوير الذي بات في هذه اللحظة العربية الحرجة في حاجةٍ إلى مُساءلة نفسه، كما يُسائل الظاهرة الدينية. فمنذ بداية الربيع العربي، تحول المثقف التنويري، المؤيد عنف الدولة وقمعيّتها، إلى ظاهرةٍ ثابتةٍ عابرةٍ للتيارات، اليمينية الفاشية أو اليسارية أو الليبرالية، يختلفون في التأويلات ويتفقون على تأييد الأسد ضد داعش، والجيش ضد "الإخوان"، وكُل عنفٍ آخر في مواجهة عنف الظاهرة الإسلامية. لا يرغب هؤلاء في سؤال أنفسهم ومساءلة موقفهم عن أيّ معنىً يبقى لرفضهم العنف من خلال انحيازهم غير المشروط للعنف؟ إذ لا يبقى، في هذه الحالة، إلا الخواء المطلق. إنها مأساة أن عرباً ومسلمين كثيرين لا يزالون يعتقدون أن قتل المرتد من أحكام الشرع، لكنها مأساة أكبر أن تنويرهم منوطٌ بمن يعتقد أن علمانية بشار الأسد هي الحل.
ربما مثّل مشهد قتل ناهض حتّر أمام المحكمة مشهداً مختزلاً للتراجيديا العربية، ومثّل القاتل أزمة الدين المعاصر، ومثّل حتّر أزمة التنوير.
@Emanmag
avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع