ماذا بعد استقالة بوتفليقة.. آفاق التغيير الديمقراطي في الجزائر

08 ابريل 2019
+ الخط -

قدم الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، استقالته من منصبه في 2 نيسان/ أبريل 2019، عبر رسالة سلّمها إلى رئيس المجلس الدستوري، الطيب بلعيز، بحضور رئيس مجلس الأمّة (الغرفة العليا في البرلمان الجزائري) عبد القادر بن صالح. وجاءت الاستقالة لتنهي مرحلة من الصراع، استمرت نحو أسبوعين بين قيادة الجيش، ممثلة برئيس هيئة الأركان، أحمد قايد صالح، ورئاسة الجمهورية، ومحيطها المدعوم من جهاز المخابرات، ممثلًا برئيسه عثمان طرطاق، المعروف بالجنرال بشير؛ والذي أُقيل هو الآخر، وضُمّ جهاز المخابرات الذي كان يرأسه إلى وزارة الدفاع، بعد أن كان تابعًا لرئاسة الجمهورية منذ إطاحة رئيسه الأسبق، الجنرال محمد مدين (توفيق) عام 2015.
رحبت قيادات المعارضة بدور الجيش واستقالة الرئيس، في الوقت الذي استمرت فيه الحركة الاحتجاجية مطالبة بإسقاط بقية رموز النظام (رئيس الحكومة ورئيسي مجلس الأمّة والمجلس الدستوري) والذهاب إلى تحول حقيقي، لا يكتفي بتغيير الوجوه. بهذا تغدو الجزائر أمام مسارين متقاطعين حتى الآن: الأوّل دستوري يتبناه الجيش، ويسعى إلى الحفاظ على النظام القائم وإجراء انتخابات، والثاني سياسي يضغط الشارع في اتجاهه بهدف الوصول إلى تحول ديمقراطي.

استقالة بوتفليقة
بعد مرور نحو خمسة أسابيع على انطلاق الاحتجاجات الرافضة لترشّح الرئيس بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، طرح رئيس هيئة الأركان، أحمد قايد صالح، في 26 آذار/ مارس 2019 تفعيل بنود من المادة 102 من الدستور الجزائري، والتي تنص على ما يلي:
• إذا استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوري وجوبًا، وبعد أن يتثبت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة، يقترح

بالإجماع على البرلمان التصريح بثبوت المانع.
• يُعلِن البرلمان، المنعقد بغرفتيه المجتمعتين معًا، ثبوت المانع لرئيس الجمهورية بأغلبية ثلثَي أعضائه، ويكلف بتولي رئاسة الدولة بالنيابة، في مدة أقصاها خمسة وأربعون يومًا، رئيس مجلس الأمة الذي يمارس صلاحياته مع مراعاة أحكام المادة 104 من الدستور.
• وفي حالة استمرار المانع بعد انقضاء خمسة وأربعين يومًا، يُعلَن الشغور بالاستقالة وجوبًا حسب الإجراء المنصوص عليه في الفقرتين السابقتين وطبقًا لأحكام الفقرات الآتية من هذه المادة.
• في حالة استقالة رئيس الجمهورية أو وفاته، يجتمع المجلس الدستوري وجوبًا، ويُثبِت الشغور النهائي لرئاسة الجمهورية.
• تُبلغ فورًا شهادة التصريح بالشغور النهائي إلى البرلمان الذي يجتمع وجوبًا.
• يتولى رئيس مجلس الأمة مهام رئيس الدولة لمدة أقصاها تسعون يومًا، تنظم خلالها  انتخابات رئاسية.
• لا يَحِق لرئيس الدولة المعين بهذه الطريقة أن يترشح لرئاسة الجمهورية.
لكن الرئيس بوتفليقة رفض، على ما يبدو، مقترح إعلان شغور منصب الرئاسة، واختار بعد الإنذار الذي وجهه الجيش في 2 نيسان/ أبريل بالتطبيق الفوري للدستور، أن يقدم استقالته بصورة طوعية، بدل أن يعزله الجيش بواسطة المجلس الدستوري بسبب العجز عن أداء مهماته الدستورية، أو بوسائل أخرى. ويمكن قراءة إصرار بوتفليقة على تقديم استقالته طوعًا، لا وجوبًا، بموجب البنود المتعلقة بشغور المنصب، أنها محاولة للحفاظ على كرامته ومكانته النضالية في تاريخ حركة التحرّر الوطني الجزائرية، وتؤكد رسالة الاعتذار التي وجهها إلى الشعب بعد استقالته، هذا الهدف.

تحول موقف الجيش
يُعد الموقف الذي اتخذه قايد صالح بتوجيه الإنذار، للالتزام بالمادة 102 من الدستور، تحولًا كبيرًا في المواقف التي أعلنها منذ بداية الحركة الاحتجاجية التي انطلقت يوم 22 شباط/ فبراير. ففي خطابه الأول الذي وجهه إلى المحتجين، في 24 شباط/ فبراير 2019، اعتبر قايد صالح المتظاهرين أناسًا مغرّرًا بهم. وذكرهم بأحداث العشرية السوداء (وهي مرحلة العنف التي مرت بها البلاد، عقب إلغاء نتائج أول انتخابات تعددية في تاريخ الجزائر في كانون الأول/ ديسمبر 1991)، وحذرهم من انزلاق البلاد نحو الفوضى. لكن مؤشرات على بداية

تغير في موقف الجيش بدأت تظهر مساء الجمعة الثالثة للاحتجاجات (8 آذار/ مارس) مع تصريحات منسوبة إلى قايد صالح تحدث فيها عن وحدة الرؤية بين الشعب والجيش، وعن التوافق في وجهات النظر مع الجماهير المحتجة. وعبر وسيلة إعلامه الرسمية (مجلة الجيش) أطلق الجيش شعار "تعزيز رابطة جيش-أمة"، وأدرجه عنوانًا لافتتاحية المجلة.
في 26 آذار/ مارس، كان واضحًا أن الجيش قد تبنّى موقف الجماهير، واتخذ قراره بوجوب رحيل بوتفليقة عندما طرح قايد صالح تفعيل المادة 102 من الدستور لإعلان شغور منصب رئاسة الجمهورية، بعد أن بدا واضحًا أن خريطة الطريق التي طرحها بوتفليقة في 11 آذار/ مارس، عشية عودته من رحلته العلاجية في سويسرا، وإعلانه تأجيل الانتخابات الرئاسية، وعدم ترشحه لها، لن يكتب لها النجاح، وذلك في ظل استمرار الاحتجاجات، وانقسام النخب حول مبادرة الرئيس للانتقال السياسي، وحول دستورية بقائه في السلطة بعد انتهاء ولايته يوم 28 نيسان/ أبريل. فاقترح الجيش، حتى لا يفقد السيطرة على المسار السياسي في حال حصول فراغ في السلطة، المسارعة إلى إعلان شغور منصب الرئيس، بحيث يتولى رئيس مجلس الأمة السلطة، بحسب المادة 102 المشار إليها.
شكل التحول في موقف قايد صالح مفاجأة للكثيرين؛ ذلك أنه كان يُعد لسنوات طويلة حليف بوتفليقة الرئيس، وموضع ثقته، وخاصة في الصراع الذي دار بينه وبين المؤسسة العسكرية -الأمنية، فعند وصول الرئيس بوتفليقة إلى الرئاسة عام 1999، كانت السلطة موزعةً بين رئاسة الجمهورية والجيش بشقيه؛ قيادة الأركان والمخابرات، لكن بوتفليقة أعلن منذ مجيئه أنه يريد أن يكون "رئيسًا كاملًا وليس نصف رئيس"؛ ما أدخله في صراعٍ مرير مع قيادة الجيش الذي كان يمثله، في ذلك الوقت، رئيس هيئة الأركان الجنرال، محمد العماري، والذي أعلن معارضته للولاية الرئاسية الثانية لبوتفليقة عام 2004. وقد تمكن الرئيس، مستعينًا بجهاز

المخابرات القوي آنذاك من إطاحة العماري، وأبدل منه قايد صالح الذي كان في طريقه إلى التقاعد بعد أن شغل منصب قائد القوات البرية منذ عام 1994.
وقف قايد صالح، في عام 2015، إلى جانب الرئيس، عندما قرّر أن يخوض معركته الرئيسة الثانية هذه المرة لتقليص نفوذ جهاز المخابرات، والتي انتهت بإطاحة رئيسه الجنرال توفيق. وقام بوتفليقة بعد ذلك بإعادة تنظيم الجهاز الذي كان يتمتع بسلطات واسعة، واستقلالية حتى عن الرئاسة، وضمه إلى رئاسة الجمهورية، ووضع شخصية موالية له على رأسها ممثلة بعثمان طرطاق. وبذلك يكون بوتفليقة قد حسم الصراع لصالحه بالكامل ووضع على رأس الجيش والمخابرات من يثق بهم من رجاله. كما أدت حملة عزل قيادات الجيش القديمة، على نحو غير مباشر، بقايد صالح إلى إحكام قبضته على الجيش؛ إذ كانت تلك مناسبة لتعيين قادة للأسلحة من الموالين له.

الجيش يحسم الصراع
لكن جهاز الحكم حول الرئيس أخذ يتصدّع مع اندلاع الاحتجاجات، وظهر جناحان ضمن المؤسسة العسكرية - الأمنية، هما جناح الجيش بقيادة قايد صالح وجناح الرئاسة - المخابرات بقيادة شقيق الرئيس؛ السعيد بوتفليقة، ويدعمه رئيس المخابرات الجنرال بشير. وقد حاول جناح الرئاسة-المخابرات إطلاق مسار يحتفظ فيه بسيطرته على السلطة، مستعينًا بالرئيس الأسبق اليمين زروال. وبحسب بيانٍ نشره زروال في جريدة الخبر الجزائرية، فقد عُقد اجتماع في منزله في 30 آذار/ مارس، قدم خلاله رئيس المخابرات الأسبق الجنرال توفيق، بالاتفاق مع السعيد بوتفليقة، عرضًا يتولى بموجبه زروال قيادة هيئة رئاسية لتسيير المرحلة الانتقالية.
ويبدو أن جناح الرئاسة كان يقود محاولة يائسة أخيرة للاحتفاظ بالسلطة، وكذلك كبح نفوذ قايد صالح المتزايد من خلال الاستعانة بالرئيس السابق زروال، وبإعادة الجنرال توفيق إلى صدارة المشهد. لكن هذه المحاولة فشلت، بسبب رفض زروال عرض الرئاسة من جهة، وتسريب مجريات الاجتماع إعلاميًا واعتبار رئاسة الأركان ما جرى أنه مؤامرة.
وقد بلغ الصراع ذروته يوم الأحد 31 آذار/ مارس؛ فانتشرت شائعات في اليوم التالي تفيد

بإقدام الرئاسة على عزل قايد صالح من منصبه، وقد فُسر انتشار سيارات تابعة للجيش حول مبنى التلفزيون الرسمي في العاصمة مساء 1 نيسان/ أبريل بأنه إجراء احترازي للجيش، لمنع إذاعة القرار الرئاسي بعزل قايد صالح، علمًا أن قيادة الجيش كذّبَت خبر العزل لاحقًا.
وشهد يوم الثلاثاء 2 نيسان/ أبريل الجولة الأخيرة في صراع الجيش المستجد مع الرئاسة؛ حيث نشرت وكالة الأنباء الرسمية عند الساعة السابعة و13 دقيقة مساء بيانًا من الجيش طالب فيه بإعلان حالة الشغور، وتنحي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة فورًا، وشدد على أنه لا يمكنه السكوت عما يحاك للشعب من مؤامرات من طرف ما سمّاه "عصابة امتهنت التدليس والخداع". وصدر البيان عقب اجتماع ترأسه قايد صالح وحضره قادة القوات والنواحي العسكرية والأمين العام لوزارة الدفاع. وقال بيان الجيش إن البيان المنسوب إلى رئيس الجمهورية صادر عن جهات غير دستورية وغير مخولة، ويتحدث عن اتخاذ قرارات مهمة تخص المرحلة الانتقالية، مؤكدًا أن أي قرار يتخذ خارج الإطار الدستوري مرفوض جملة وتفصيلًا.
لم يمض على بيان الجيش نحو نصف ساعة، أي في تمام السابعة و45 دقيقة حتى أذيع خبر استقالة بوتفليقة. ويمكن إرجاع أسباب انتصار الجيش في معركته مع الرئاسة - المخابرات في ما يلي:
• تصدّع بنية النظام الحاكم وانفضاض التحالف الرئاسي الذي شكل الركن الأساسي الذي استند إليه حكم بوتفليقة، وشمل ذلك تخلي قيادات أحزاب النظام عن الرئيس بما فيها حزب جبهة التحرير الوطني التي يعدّ بوتفليقة رئيسها الشرفي، والتجمع الوطني الديمقراطي الذي يقوده أحمد أويحيى الذي أطاحته الاحتجاجات هو وحكومته. كما حصلت انشقاقات داخل التجمعات غير الحزبية التي كانت تدعم الرئيس، بما فيها منتدى رؤساء المؤسسات الذي استقال بعض أعضائه، ليلتحق بهم رئيسه رجل الأعمال، علي حداد، الذي تمّ إيقافه لاحقًا وهو يحاول الخروج من البلاد عبر الحدود البريّة بين الجزائر وتونس. ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل تعدّاه إلى الاتحاد العام للعمال الجزائريين والنقابات. يضاف إلى ذلك انشقاقات داخل مؤسسات ذات

شرعية تاريخية كالمنظمة الوطنية للمجاهدين، والتي وقفت في صف الاحتجاجات.
• استمرار الاحتجاجات وصمود المحتجين.
• رفض المعارضة أي مفاوضات مع النظام قبل رحيل بوتفليقة.
• سيطرة الجيش على المؤسسات الإعلامية الرسمية، خاصة التلفزيون العمومي ووكالة الأنباء الرسمية.
• تماسك الجيش في مقابل تصدع تحالف الرئاسة.

صراع المسارات
بعد استقالة بوتفليقة تقف الجزائر أمام مسارين رئيسين:
• المسار الدستوري، وهو المسار الذي تفضله قيادة الجيش، وتهدف من خلاله إلى الحفاظ على النظام عبر تغيير شخص الرئيس، بإقامة انتخابات رئاسية في غضون 90 يومًا من استقالة الرئيس. ويخدم هذا المسار أحزاب النظام أكثر من أحزاب المعارضة كونها تملك من الموارد والخبرة ما يمكنها من التحضير للانتخابات خلال هذه المدة القصيرة، كما أن الحركة الاحتجاجية ما زالت غير منظمة وغير قادرة على إنتاج قيادة سياسية واضحة لها.
• المسار السياسي، وهو المسار الذي يدعو إليه الشارع ويهدف إلى تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي وليس مجرد تغيير رأس النظام. هذا المسار يتطلب حوارًا وطنيًا وتغييرًا دستوريًا وصولًا إلى انتخابات حرة ونزيهة بإشراف هيئة وطنية مستقلة. بعبارة أخرى تنفيذ مشروع بوتفليقة الخاص بالندوة الوطنية، لكن بإدارة وإشراف شخصيات مستقلة تلقى قبولًا وإجماعًا وطنيًا. ويتطلب هذا المسار تعاونًا وحوارًا بين قوى المعارضة والمحتجين من جهة، وأطراف من النظام من جهة أخرى حتى يمكن الشروع في عملية تحول ديمقراطي سلمي. ومن دون ذلك، قد ينفرد الجيش بالسلطة، خصوصًا إذا نشأت مرحلة فراغ تشعر فيها المؤسسة العسكرية بأنها صاحب القرار الأول في البلاد بعد أن تمكنت من حسم الصراع ضد تحالف الرئاسة - المخابرات.  

خاتمة
الجزائر جاهزة للدخول في عملية انتقال ديمقراطي، ولا نتكلم حاليًا عن عوامل نجاح الديمقراطية، بل عن عوامل الدخول في مرحلة انتقال. فالشارع يطالب بالديمقراطية وكذلك

أحزاب المعارضة، والنخب الحاكمة منقسمة، والجيش يطالب باحترام الدستور، ولم تظهر منه نيات للسيطرة على الحكم بعد، ولا يجوز منحه المبرر لذلك. والأمر يتطلب حاليًا طرح برنامج ديمقراطي من طرف النخب المعارضة ممثِّلةً الحراك والأحزاب، والتواصل مع أطراف من النخب الحاكمة، بما في ذلك جبهة التحرير وغيرها للاتفاق على بندين رئيسين: الأول، تعيين هيئة مستقلة فعلًا لإدارة العملية الانتخابية والإشراف عليها وتعديل القوانين أو سن قوانين جديدة لهذا الغرض. والثاني، إقامة جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد بعد حوار وطني، والاستفتاء عليه قبل الانتخابات. وإذا لم يتفق على هذه الفكرة فيمكن أن تلزم الهيئات المنتخبة بتشكيل الجمعية بعد الانتخابات، وأن يضمن هذا الإلزام في قانون له صبغة دستورية. في هذه الأثناء تدير البلاد حكومة من شخصيات مستقلة متفق عليها.
هذه التوصيات مستقاة من تجارب الانتقال الديمقراطي في دول كثيرة، وليس من الجزائر تحديدًا. وقد يطرح الجزائريون تنويعات مختلفة على مسار التحول، ولكن لا توجد في رأينا طرق التفافية كثيرة حول مطلب أساسي هو توافق النخب السياسية على برنامج ديمقراطي والالتزام به. ويجب الانتقال بسرعة من الانشغال برموز النظام السابق إلى تنفيذ برنامج ديمقراطي.