بعبع داعش وما وراء الأكمة
رأينا كلنا، كيف خرج تنظيم داعش في قلب المشرق العربي، كما يخرج عفريتٌ انشقت عنه الأرض. تحول، في وقت قياسي، من مجرد تنظيم ضمن التنظيمات الدينية المسلحة التي ظلت تحارب نظام الأسد على التراب السوري، ليصبح، بين ليلة وضحاها، قوةً إقليمية، تملك القدرة على محو الحدود، ودمج الأقطار في بعضها! تمكنت داعش، عبر هجوم كاسح مباغت، أن تمحو الحدود بين العراق وسورية، ثم ما لبثت أن اجتاحت الموصل، وتسببت، في وقت قصير جدًا، مستخدمة جحافل الرعب التي تسير أمامها، في طرد أعداد هائلة من الأهالي من مدنهم وقراهم، خالقةً موجةً ملحميةً من النزوح، لم تعرفها المنطقة في تاريخها القريب. ابتلعت داعش مساحات معتبرة من أراضي شمال العراق، واقتربت من العاصمة بغداد، بل، وأصبحت لها جيوبٌ في جنوبي بغداد.
وما إن بانت للحكومات في المنطقة قدرات تنظيم داعش، وخطره وشراسته، هرعت كالعهد بها، إلى الحل الأمني. وهو حل، بطبيعة الحال، يفرض نفسه في مثل هذه الأوضاع. وبما أن هذه الحكومات ليست لها آلة عسكرية، وجيوش قادرة على التصدي لداعش، شرعت فورًا، في إرسال صيحات الذعر الهستيرية، مستنجدة بالقوى الكبرى. ويبدو أن هذه قد كانت بالفعل واقفةً على أمشاط أصابعها، في انتظار صيحات الاستنجاد هذه. لذلك، سرعان ما خفّت للنجدة، ولكن من الجو فقط! ولا يعدم الغربيون ذرائع يقدمونها في مثل هذه المواقف، حتى لا يزجوا بجنودهم في الحروب الأرضية.
القادة الغربيون لا تحركهم النخوة، ولا دواعي النجدة، ولا المروءة، ولا حتى الأخطار على السلم العالمي، ولا حراسة المبادئ. إنهم يتحركون وفقاً لمصالح استراتيجية، تتعلق بأقطارهم، ومنظومتهم، وأحياناً وفقاً لمصالح شخصية. ويتم دثار كل أولئك بأغطية إعلامية مختلفة. وهم يراقبون، في كل تحركاتهم، ما يراه الناخبون، خصوصاً في حالات الحرب في ما وراء البحار. ولأنهم أعلنوا، منذ البداية، أنهم لن يرسلوا قواتٍ أرضية، بادروا، مبكراً جداً، إلى القول بأن مواجهة داعش قد تستغرق سنوات! بذلك حموا أنفسهم من ضغط توقعات الحكومات العربية بالقضاء السريع على داعش، وحموا أنفسهم من إدارة معركة حاسمة مع داعش تقتضي منهم إرسال قوات أرضية فيغضب عليهم الناخبون. وهكذا تَعيّن أن تدفع جهات ما فواتير حرب جوية طويلة، بأسلحة باهظة الثمن، لا تضمن السيطرة على الأرض؟
حين ابتلعت النازية والفاشية أوروبا، وأوشكت بريطانيا العظمى أن تجثو على ركبتيها، تحت وطأة القصف الجوي النازي، جاءت أميركا بكل ثقلها العسكري لإنقاذ أوروبا. جرى تحطيم الآلة العسكرية النازية والفاشية، بل وجرى استئصال الفكرتين، النازية والفاشية، واجتثاث شجرتيهما. كما لحقت الهزيمة العسكرية الساحقة باليابان، حليفة هتلر، عن طريق أول وآخر استخدام للسلاح النووي في تاريخ البشر، فاستسلمت من دون قيد أو شرط، ورضيت أن تخرج تماماً من معادلات القوى العسكرية في العالم، وانصرفت، عبر الستين عاماً ونيف التي تلت، إلى تصنيع السيارات، والأجهزة الكهربائية والإلكترونية.
السؤال اليوم: أين قدرات داعش العسكرية من قدرات النازيين، وتفوقهم العلمي والتكنولوجي. وأين حجم مليشيا داعش وقدراتها من حجم وقدرات الجيوش النازية التي بلغ تعداد أفرادها الملايين، فامتدت أذرعها، بعد أن وضعت معظم أوروبا القاريّة تحت سيطرتها، إلى العمق السوفيّيتي، بل وإلى شمال أفريقيا؟ أيضاً، أين معدات داعش العسكرية، قليلة العدد، من دبابات النازيين ومركباتهم العسكرية، وطائراتهم، ومجمل معداتهم التي يخطئها العد؟
كيف، إذن، جرى إخراس صوت النازيين والفاشيين إلى الأبد، في أربعينات القرن الماضي، في حين ظلت الحرب على القاعدة في أفغانستان وباكستان واليمن وشمال أفريقيا، مستمرة أكثر من عقد، من دون نجاح يذكر؟ بل إن واقعنا، اليوم، يقول إن القاعدة، على الرغم من الحرب الطويلة عليها، وجدت متسعاً من الوقت ومن الأمان لتحبل وتلد تنظيم داعش، الهمجي، البربري، الذي أحال القاعدة إلى حملٍ وديع، وجعل فرائص الأنظمة العربية ترتعد، ودفع بالغرب ليخطط لسنوات أخرى من المواجهة.
حين أرادت حكومة جورج بوش الأب تعميق مخاوف دول الإقليم، التي أرعبها اجتياح صدام حسين الكويت، طفقت تردد، عبر وسائل الإعلام، إن جيش العراق هو رابع أكبر جيش في العالم! ولكن، ما أن بدأت الحرب البرية، عقب الحملة الجوية الشرسة في عام 1991، اتضح أن ذلك الجيش لا يملك سوى أسلحة الحرب العالمية الثانية، ولا يعرف شيئاً عن الحرب الإلكترونية الحديثة. وبعد اثنتي عشرة سنةً من حصار العراق، ومن القصف الجوي اليومي، انهارت القوات البرية العراقية، مرة أخرى، وهي تواجه الغزو الأرضي الأميركي، الذي أطاح نظام صدام حسين، في عام 2003.
ظلت الأنظمة العربية تشتري الأسلحة بمئات مليارات الدولارات، عبر العقود الخمسة أو الستة الماضية. كما ظلت تبعث العسكريين إلى الخارج، وتصرف على التدريب العسكري، في الخارج والداخل، صرف من لا يخشى الفقر. ولكن، حين ظهر خطر تنظيم داعش، بهذه الصورة المرعبة، لم تكن هناك قدرة إقليمية لمواجهته، بلا استنجادٍ بالغرب! فما فائدة شراء الأسلحة، وما فائدة تدريب العسكريين، وامتلاك الجيوش، ما دمنا نستنجد بالغرب في كل ملمّة؟ كيف عجز العراق، بعد عشر سنوات من التسليح والتدريب وإعادة بناء الجيش، ومعه السعودية، ومن ورائها مختلف دول الخليج، ومعهم الأردن، وتركيا، التي وقف تنظيم داعش على حدودها، عن تشكيل قوة عسكرية إقليمية، تقضي على هذه المليشيا الفالتة، وتحفظ الأمن الإقليمي لهذه الدول، بعيداً عن الحسابات والحساسيات البينية الأخرى؟
ربما يبدو لبعضهم أن في هذه التساؤلات تبسيطاً، وربما سذاجة سياسية، وتجاهلاً لتعقيد الخريطة السياسية في المنطقة، وعدم التفاتٍ للحسابات الأخرى التي تقف وراءها المصالح المتضاربة، والانقسامات الطائفية. لكن، هذه الحساسيات والحسابات هي التي أحدثت الفراغ البنيوي في المنظومة الأمنية للمنطقة، وجعلت ميليشيا بلا غطاء جوي، تتحول إلى بعبعٍ، يقض مضاجع الدول. بل، ولتصبح خطراً حقيقياً على مستقبل الاستقرار، وتهديداً لنمط الحياة المتمدنة في الإقليم برمته. هذه الحساسيات والحسابات الطائفية هي التي أوجدت هذا الفراغ الفادح الذي ملأته تنظيماتٌ بلا عقل وبلا قلب، مثل داعش ومثيلاته.
أغلب الظن عندي، أن تنظيم داعش، قبل أن يصل إلى مراحل تخلُّقه الأخيرة التي جعلت منه خطراً على الجميع، ظل فترة ما، وربما لا يزال، أداةً تكتيكيةً لتحقيق أهدافٍ مرحلية، للاعبين إقليميين، غير أن ما لا يدركه هؤلاء اللاعبون، أن خطتهم هذه تعوزها الحكمة. فقديماً قال المتنبي "ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده، تصيّده الضرغام فيما تصيّدا".
أما خفوت صوت المؤسسة الدينية الرسمية، ومن يسمون بـ"علماء الدين"، وقعودهم عن دورهم في مواجهة هذه اللوثة البربرية الفظيعة، وهذا الجنون الذي ينسب نفسه إلى الإسلام، فموضع تساؤلٍ أشد إلحاحاً من سابقاته. يضاف إلى ذلك، ما نراه من تقاعسٍ لافت من الإعلام العربي عن أداء دوره في إدارة حواراتٍ جادة، لمواجهة أصل العلة، المتمثل في استمرارية الحاضنة الدينية المفاهيمية القروسطية التي لا تنفك تفرز تنظيماتٍ كداعش وأمثاله. وهذان جانبان آخران مهمان جداً في هذا المشهد الكئيب.