في عرضها الكوريغرافي الجديد، الذي يحمل عنوان "أوطّوف"، وهي كلمة أمازيغية تعني "نملة"، تدير الفنانة المغربية، بشرى ويزغن (1980)، خمس ممثّلاث من مغنّيات فن "العيطة" الشعبي المغربي، تتراوح أعمارهن بين 52 و65 سنة.
تشهر الممثّلات أجسادهن على خشبة المسرح، في دراما كوريغرافية متوتّرة، تختلط فيها الصرخات باللوحات الراقصة في ظلام دامس تارةً، وأخرى تحت ضوء يكشف أنوثتهن المقموعة.
يبدأ العرض، الذي افتتحَ، مؤخّراً، فعاليات "مهرجان الخريف" في "مركز بومبيدو للفن المعاصر" في باريس، بمقدّمة صامتة على خشبة مظلمة يظهر فيها وجهٌ نسائي تنيره إضاءة خفيفة ومركّزة. يظلّ الوجه ثابتاً لدقائق طويلة، يجذب فيها نظرات الجمهور.
وبشكل مفاجئ، تبدأ "انتفاضة" كوريغرافية تحت إنارة قوية مرفقة بصراخ يمزّق سكون المسرح، ويضع المتفرّج في حالة من الترقّب والغليان. ثمّ تتوالى المشاهد الأدائية رقصاً وغناءً، بطريقة تُفصح فيها أجساد الممثلات عن مكنوناتها وكأنها خلية نمل، كما عنوان العرض.
يتميّز العمل باقتصاد في الحوار، مفسحاً المجال للتعبير الجسدي الإيحائي والغناء والصراخ والضحك، مع اشتغال دقيق على تقنيات الإنارة. يتوزّع عبر ثلاث مراحل درامية: القمع والكبت ثم التمرّد والعصيان، تليهما مرحلة "مصالحة" يتكثّف فيها الرقص والغناء.
يعكس اختيار المخرجة، التي تشارك أيضاً في الأداء، المرور من مشهد مظلم وساكن إلى آخر متفجّر وضاجّ بالصراخ والفوضى محاكاةً رمزية للهوّة السحيقة بين زمني التقاليد البالية والحداثة المتشظّية، من خلال أداء جسديّ يستعرض تاريخاً من الدموع والأحلام المجهضة، وأيضاً نزوات ولذّات بهيجة تنفلت من عقال الذكورة في مشاهد تطبعها الهستيريا أحياناً.
بشرى ويزغن من مواليد مدينة ورزازات في الجنوب المغربي، عاشت طفولتها ومراهقتها في مرّاكش؛ حيث تعلّمت الرقص الشرقي وعمرها لم يتجاوز 16 عاماً، ثمّ تعرّفت إلى الكوريغرافيا من خلال عرض للرقص المعاصر أقامه الفنان الفرنسي جورج أبيكس في المدينة، فأدركت أن "هذا النوع يمنح الجسد فرصة أكبر للتعبير".
هكذا، بدأت تعلُّم أبجدية هذا الفن من خلال بعض الورشات في المغرب، قبل أن تنتقل إلى فرنسا لتستكمل دراسة فنّي الكوريغرافيا والرقص المعاصر، على يد معلمين فرنسيين، منهم برناردو مونتي وماتيلد مونيي.
ثم عادت إلى مراكش لتؤسّس فرقتها الخاصة، والمكوّنة من فنّانات شعبيات متقاعدات، أو في نهاية مسارهن المهني، غالبيتهن اشتغلن مغنّيات أو راقصات في فن "العيطة"، ويُطلق عليهن في المغرب لقب "الشيخات".
لا تخفي ويزغن مساندتها للحركة النسوية، غير أنها تتحاشى المباشرة في تناول وضعية النساء المغربيات في أعمالها الفنية، وتتفادى الخطابات التقريرية والشعاراتية. لكن، اختيارها "الشيخات" المهمّشات والحرص على وضعهن في قلب وواجهة العمل الفني، في إطار تجريبي، في حدّ ذاته يُعدّ فعلاً سياسياً يتّسم بالجرأة، في ظلّ مشهد مسرحي لا يُفسح المجال كثيراً للمرأة، إلاّ ضمن قوالب نمطية.
تتحدّث ويزغن عن "شيخاتها" بحنو وفخر كبيرين: "هؤلاء الشيخات كنَّ دائماً، بالنسبة إليّ، محرّكاً إبداعياً خصباً. خلال طفولتي، عندما كنت أحضر الحفلات والأعراس الشعبية، كنت مفتونة بعوالمهن الآسرة، بعطورهن وحليّهن والحرية التي تنبثق من رقصهن وغنائهن".
الواقع أن هؤلاء الفنّانات يعانين من نظرة مجتمعية منفصمة: يستمتع الجمهور بأدائهن ويطرب لرقصهن في الأعراس والكاباريهات، لكنه، في الوقت نفسه، يزدريهن ويعتبر أن مهنتهن غير لائقة.
أما بالنسبة إلى ويزغن، فالأمر يختلف تماماً: "هن مهمّشات، لكنهن يتمتّعن بسلطة غريبة، ولا يضيّعن وقتهن في الشكوى والبكاء. ورغم أن الحياة تقسو عليهن، يكابرن وينتقمن منها بمنح البهجة والفرح بسخاء".
تطلّب إنشاء الفرقة قرابة أربع سنوات جالت فيها المخرجة أنحاء المغرب، بحثاً عن "شيخات" في عمر متقدّم، وإقناعهن بالاشتغال ضمن مشروعها الكوريغرافي. بعد جهود مضنية، تمكّنت من استمالة عشر مرشّحات اشتغلت معهن شهوراً عديدة في مرّاكش، وكانت النتيجة عدّة أعمال كوريغرافية لاقت نجاحاً كبيراً في المغرب وفي المهرجانات الدولية.
كانت البداية مع عرض "مدام بلازا" (2009) ثم "ها" (2012) و"غربان" مطلع العام الماضي، وشاركت في العرض 17 "شيخة"، ولا يزال مبرمجاً في العديد من المهرجانات العالمية.
عن تأقلم الممثّلات مع تقنيات العمل الكوريغرافي، هن الآتيات من الفن الشعبي بطرقه التقليدية المتقشّفة، تقول: "لقد تحوّلن، بسرعة، من مغنيات وراقصات إلى ممثّلات محترفات، وفهمن آليات اشتغال الجسد في العرض الكوريغرافي بعفوية مدهشة. ساعدهن في ذلك ممارستهن لفن "العيطة" سنواتٍ طوال وتعوّدهن على مواجهة الجمهور. ويبقى الأهم هو الشحنة العاطفية الخام التي يفجّرنها بقوّة على خشبة المسرح".
يشار إلى أن المشاركات في عرض "أوطّوف" هن كبورة آيت حمّاد والهنا فاطمة وحليمة سحمود وفاطنة ابن الخطيب، إضافةً إلى بشرى ويزغن.
اقرأ أيضاً: لحسن زينون.. تغريبة الأجساد الموشومة