من خلال مطالعة عناوين إصدارات بسمة عبد العزيز البحثية، نتلمّس المساحة التي تبحث فيها بشجاعة بين تجارب وأصوات التعذيب والقهر والأفكار القاسية، التي قد لا يحتملها إلا من احتكّ بالطب مثلها، والنفسي على وجه الخصوص، ليستطيع حماية نفسه، قدر المستطاع، من آلاف القصص عن التعذيب والقهر.
تتبُّعُ نتاج عبد العزيز المتوزّع بين الدراسات والكتابة السردية والفن التشكيلي والنحت يكشف عن انشغالها بالهمّ العام، فهي ليست بالكاتبة المنعزلة عما يحدث في الحياة السياسية والاجتماعية، بل إنها متورطة في هذا الهم بشكل واضح.
في حديثها إلى "العربي الجديد"، تقول: "قبل كتاباتي، كان الهم العام جزءاً أساسياً من مشروع حياتي الشخصية. عملت سابقاً في (مركز النديم) لتأهيل ضحايا التعذيب بعد تخرّجي من الجامعة مباشرة". وتؤكّد أن "الانسحاب من الحياة العامة أمر غير وارد بالنسبة لي".
فى أعمال لها، مثل "إغراء السلطة المطلقة" و"ذاكرة القهر" و"ما وراء التعذيب"، ركزت عبد العزيز على قمع الدولة للمواطنين ليس فقط بتحويلهم من مواطنين إلى ضحايا، بل أيضاً لتواصل التجربة مع انتهاء فترة الإيقاف، إذ يصير السجن النفسي لصيقاً بالكثير منهم.
في آخر إصداراتها، "سطوة النص" ("صفصافة"، 2016) حلّلت خطاب الأزهر وارتباطه بمصالح السلطة الحاكمة في مصر، وكأنها تقدّم تنويعاً جديداً على نفس النغمة التي تعزفها. تقول "نحتاج إلى الاهتمام بفكرة الخطاب والوعي بخطورتها وتأثيرها المباشر على الوعي وتوجيه الجماهير لصالح السلطة، صاحبة الخطاب، والتي تقوم بتوجيهه، فاللغة مؤثرة جداً في حياتنا ولدينا كمية تلاعب بالمفاهيم والألفاظ والعبارات مخيفة، ووسائل الإعلام تستغل هذا التلاعب في العبث بوعي الجماهير". تضيف "هذا التلاعب تسبّب في جعل المشاهد يرضى، على سبيل المثال، بفكرة القتل بضمير مطمئن، لأن الخطاب المحرّض يلعب على الوعي بطريقة لا تجعل المواطن ينتبه ولا يحلل نمط هذا الخطاب ولا المغزى من ورائه".
إلى جانب النزعة التفكيكية في أعمالها، التي تأخذ شكل دراسات، لعبد العزيز تجارب سردية. ولعلها من داخل العمل على الدراسات، وكذلك تجربتها في الطب النفسي، كانت عين الكاتبة تلتقط تفاصيل تؤثث بها فضاءات قصصها، أو روايتها ("الطابور"، دار التنوير، 2013) والتي رأت فيها المجتمع وقد تحوّل إلى "طابورٍ" يطول ويمتد في وضع من التأقلم مع الأوضاع، وهي الرواية التي ترجمت إلى الإنكليزية عن "دار ملفيل هاوس" في نيويورك. قبلها، صدرت لها مجموعتان قصصيّتان وُصفتا بالواقعية الكلاسيكية، في حين تتّسم الرواية بالعبثية الواضحة.
توضّح الكاتبة: "لم أعد أرى الشعرة التي تفصل بين الواقعي والعبثي، فواقعنا صار عبثياً على المستوى السياسي أو الاجتماعي، والكتابات الديستوبية والكافكاوية أصبحت فى مجتمعنا كتابة واقعية بحتة، بعدما صارت الأمور خارجة تماماً عن التعقّل".
من المناطق، التي تطرقها عبد العزيز، ذلك التساؤل عن دور المثقف ومواقفه. هذا الانشغال يعدّ جزءاً من مشروعها الكلي الذي تقول عنه "مشروعي الأكبر له علاقة بكشف السلطة المهيمنة والمسيطرة على عقول الناس سواء كان اسمها السلطة السياسية أو الدينية أو الثقافية، وبالطبع هناك جزء منه متعلق بسلطة المثقفين كأشخاص".
بعد الثورة المصرية، حدثت خلخلة واضحة للمثقف، وصل الأمر إلى حديث بعضهم عن "انهيار" دوره كمؤثّر كما في أزمنة سابقة، وهو ما تتفق معه عبد العزيز التي تقول "كثير من المثقفين لم يعد لهم تأثير على القراء والمتلقين، بعدما اتخذوا مواقف إلى جانب السلطة، فاتخذ القراء منهم موقفاً معاكساً". تضيف: "في الفترة الماضية، حدث شيء من الغربلة والفرز، وللأسف قليلون من ظلوا على مواقفهم الثابتة والمناصرة لقيم الحرية والعدالة والإنصاف، وكثيرون اتخذوا مواقف عنيفة مساندة لآلة القهر والقمع ومساندة لإجراءات مضادة لفكرة وجود رأي ورأي آخر، بل وحمّسوا وحفزوا السلطة السياسية كي تبيد من يخالفها".
ترى الكاتبة المصرية أن هذا الدور في منتهى الخطورة، خصوصاً في هذه المرحلة التي كان من المفترض أن يقوم فيها المثقف بدور المقوّم للمسار بشكل ما. تقول "إن كان المثقف عاجزاً عن التقويم فعلى الأقل عليه ألا يؤيّد حركة قمعية واسعة بهذا الشكل، فأن يكون المفكرُ الذي من المفترض أن يتسع صدره للرأي الآخر هو من يحث السلطة على القمع، فمعنى ذلك أن هؤلاء المثقفين لم يعد هناك معنى لوجودهم".
بالنسبة لصاحبة "ذاكرة القهر" فإن الوضع يشير إلى جانب إيجابي، وهو الكشف عن وجوه كثيرٍ من المثقفين المؤيدين للقمع، أي أن حالة من الوعي المجتمعي آخذة بالتوسّع، وأنها تسحب سجادة التأثير من تحت أقدام بعض المثقفين. وتتابع بالقول "بوجه عام المجتمع كسر وجود سلطة أبوية، سواء كانت هذه السلطة متجسّدة في الرئيس أو شيخ الأزهر أو بابا الكنيسة، وهذه السلطة ما زالت تُكسر منذ 25 يناير إلى الآن".
تعود عبد العزيز إلى الوراء، حيث تذكر مراجعات نقدية لمواقف المثقفين، مثل مراجعات غالي شكري لمواقف توفيق الحكيم ونجيب محفوظ في مسألة علاقة الفنان أو المبدع بالقضايا العامة، والتحليلات الواردة فيها، وترى أنه منذ ذلك الوقت "هناك انهيار كامل في المنظومة برمتها؛ المنظومة الثقافية ومنظومة التفكير العلمي ومنظومة النقد الموضوعي، انهيار على كافة المستويات يقابله تجريفٌ ثقافي وفكري متعمّد، حتى المعارك الثقافية التي قرأنا عنها أيام العقاد وطه حسين وأحمد لطفي السيد وما بعدهم، أصبحت منعدمة، الغالبية العظمى اليوم منشغلة بحالة استقطاب مجتمعيّ عنيف، وبالهجوم على الآخر، حتى هذه المعارك سطحية بشكل كبير سِمتها التراشق بالألفاظ وليس التراشق بالأفكار".
وتأكيداً على ذلك، ترى أن التأثر بمواقف الكتّاب السياسية قد ينعكس فى تقبلها للقراءة. تضرب هنا مثال الكاتب الراحل، جمال الغيطاني، إذ تقول: "شعرتُ بالضيق من مواقفه وبالتالي لم أعد متحمّسة لقراءته. صحيح أنني أستطيع أن أميّز قيمة الغيطاني ككاتب وروائي لكن الفصل بين موقفه السياسي وكتاباته ليس سهلاً. أحب لغته لكن مواقفه أثرت على حماسي لقراءته".
لكن، لماذا لم يعُد الكتّاب والمفكرون كتلة واحدة إزاء مناصرة قيم كبرى كالحرية والعدالة والديموقراطية؟ ترد عبد العزيز بأن فيهم كثيرين "يشعرون بعدم تحقيق الذات، وهؤلاء يرون في تقرّبهم من السلطة أملاً لأخذ مكان تحت الضوء، ومنهم من يعيش راديكالية جذرية في أفكاره، مثل من ينتمي للناصرية بشكل عنيف فيَرى أن السلطة الحالية امتداد للسلطة الناصرية وبالتالي ليس لديهم مشكلة من فكرة أن يسود رأي واحد وأن يظهر اتحاد اشتراكي، هذا فضلاً عمن لديه مصالح شخصية، ومن هو خائف والقائمة تطول".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاهدة على مجزرة الأشجار
إذا كانت بسمة عبد العزيز في دراساتها وأعمالها الأدبية صريحة في مواجهة السلطة حيث تفكّك خطابها بأدوات علم النفس أو النص الأدبي، فهي تقدّم في أعمالها التشكيلية صيغة أخرى لهذا التفكيك. يبدو واضحاً في أعمالها انعكاس أبحاثها حول السلطة والقمع على عقلها الفني، فعلى سبيل المثال كان لها معرض بعنوان "مجزرة الأشجار" وثّقت فيه الكاتبة المصرية حملة قطع الأشجار من مستشفى العباسية للصحة النفسية.