بريطانيا ونفق بريكست: الخروج السلس مستبعد

11 يناير 2020
متظاهرون ضد بريكست في لندن (Getty)
+ الخط -
هل باتت بريطانيا على مشارف الخروج من نفق أزمة بريكست التي تستمر منذ التصويت على اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي صيف العام 2016، أم أنها على أبواب مشكلة جديدة مع دول القارة ستنتهي بمغادرة لندن بلا اتفاق مع جيرانها؟ هذه الأسئلة وغيرها يطرحها إقرار مجلس العموم البريطاني، أمس الأول الخميس، مشروع قانون بريكست، لتتجاوز حكومة بوريس جونسون بذلك العقبة الأساسية التي توقّف عندها قطار بريكست منذ ديسمبر/ كانون الأول 2018، عندما فشلت رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي في إقناع ممثلي الشعب البريطاني بصفقتها لمغادرة الاتحاد الأوروبي. وفيما تسمح هذه الخطوة بمغادرة البلاد للتكتل الأوروبي في الموعد المقرر يوم الجمعة، 31 يناير/ كانون الثاني الحالي، غير أنها تفتح الباب أمام احتمال أزمة جديدة، هي بريكست من دون اتفاق، فالقانون الذي أقره مجلس العموم يمنع الحكومة من تمديد الفترة الانتقالية. وفي الداخل البريطاني، يمنح تطبيق الاتفاق جونسون الحرية لإعادة تشكيل بريطانيا وفقاً لرؤيته، خصوصاً في ظل ضعف حزب العمال الذي يتخبّط في أزمة اختيار خليفة لجيريمي كوربن.

وتمكّن جونسون بأغلبيته الجديدة التي حصدها في الانتخابات التي جرت نهاية العام الماضي، بتمرير قانون بريكست في قراءته الأخيرة في مجلس العموم، فصوّت لصالحه 330 نائباً، مقابل رفض 231. ولم تنجح المعارضة البرلمانية التي تراجع تمثيلها في البرلمان الجديد بإدخال أي تعديل على مشروع القانون الحكومي. وبخلاف الضوضاء التي رافقت الجلسات البرلمانية التي كانت المعلم الرئيسي لوستمنستر العام الماضي، مضت جلسات النقاش والتصويت على مشروع القانون الأسبوع الحالي، بين الثلاثاء والخميس، بكل هدوء، ليختتمها النواب بالتصويت لصالح "تطبيق بريكست" الذي كان شعار حزب المحافظين وزعيمه جونسون خلال الانتخابات العامة.

وحصد مشروع القانون أغلبية 99 صوتاً، وهي من أعلى نسب التصويت لصالح الحكومة في قضية خلافية منذ استفتاء بريكست في يونيو/ حزيران 2016 على الأقل. بل إن إقرار مشروع القانون كان مجرد تحصيل حاصل، لدرجة ألا أحد من نواب الحزب الحاكم صوّت ضده، بينما غاب 35 نائباً عن المحافظين عن جلسة التصويت. أما في صفوف المعارضة فإن الإحساس بالعجز دفع 43 من نوابها إلى عدم تكليف أنفسهم عناء حضور هذه الجلسة "التاريخية". أما الحزب الاتحادي الديمقراطي الأيرلندي، والذي كان لرأيه أن يصنع فرقاً في البرلمان الماضي، فغاب صوته كلياً مساء الخميس، واكتفى بالمراقبة بين صفوف الممتنعين عن التصويت. بل عكست الصحافة البريطانية الأجواء الجديدة بأن غاب التصويت على قانون بريكست عن صفحاتها الرئيسية، واكتفت بمجرد الإشارة إلى أن المتوقع قد حصل.

ولم يختتم مشروع القانون مسيرته في البرلمان البريطاني بعد، إذ يتجه في محطته المقبلة إلى مجلس اللوردات، وهو الغرفة العليا في البرلمان. وعلى الرغم من اختلاف تركيبة مجلس اللوردات الذي لا يمتلك فيه جونسون الأغلبية، ومن أن المجلس كان قد تسبّب بعوائق للحكومة في البرلمان السابق من خلال عدد من التعديلات التي أدخلها على مشاريع قوانينها، إلا أنهما كانا مجرد انعكاس لحالة الانقسام في مجلس العموم. فاللوردات غير المنتخبين يدركون عدم جدوى تحدي رغبة المجلس المنتخب، خصوصاً أن أي تعديل يدخلونه على مشروع القانون سيعود لمجلس العموم. وكان المتحدث باسم رئاسة الوزراء قد حذر اللوردات من محاولة إحباط مسير مشروع القانون بالقول "لقد أرسل البلد رسالة واضحة جداً بأنه يريد حل معضلة بريكست". وينتظر أن يستجيب اللوردات، يوم الإثنين، بإقرار مشروع القانون في غرفتهم العليا، وليصبح قانوناً رسمياً بعد حصوله على مصادقة الملكة إليزابيث الثانية.




وكان نواب المعارضة قد سعوا إلى تعديل مشروع القانون ليشمل فقرة خاصة تلتزم بها الحكومة البريطانية باستقبال القاصرين من اللاجئين غير المصحوبين بأفراد من عوائلهم من دول الاتحاد الأوروبي، كجزء من التزامات بريطانيا الأوروبية. وكانت الحكومة السابقة قد وافقت على هذا التعديل في مسعى منها لإغراء عدد من نواب العمال للتصويت لصالح اتفاق بريكست، ولكن الحكومة الحالية استطاعت بأغلبيتها البرلمانية التخلي عن مثل هذا الالتزام والتصويت ضد التعديل. وتذرعت حكومة جونسون بأن مسألة القاصرين من اللاجئين يجب أن تكون في إطار قانون الهجرة الجديد.

إلا أن مسألة بريكست لن تنتهي مع بداية شهر فبراير/ شباط المقبل، بل تدخل مرحلة جديدة تخضع فيها بريطانيا لقواعد الاتحاد الأوروبي من دون أن تكون عضواً فيه، وتستمر حتى نهاية عام 2020. وينتظر من بروكسل ولندن أن تتفقا في نهاية الفترة الانتقالية هذه على الاتفاق التجاري الذي سيحدد طبيعة العلاقة الجديدة بين الجانبين. ولا يُخفي جونسون استعجاله لبدء المرحلة التالية من المفاوضات، إذ أكد أنها ستنطلق في اليوم التالي لبريكست. إلا أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين حذرت خلال زيارتها إلى لندن، يوم الأربعاء الماضي، من أن 11 شهراً لا تكفي لإبرام اتفاق شامل، بينما أكد جونسون أن بريطانيا لن تسعى إلى تمديد الفترة الانتقالية. وعلى الرغم من أن الطرفين أكدا أن المفاوضات ستشمل الأمور ذات الأولوية بداية، وأن الجدول الزمني سيكون عرضة لإعادة التقييم بحلول شهر يونيو/ حزيران، إلا أن قانون بريكست الذي أقره البرلمان البريطاني، يمنع الحكومة من تمديد الفترة الانتقالية، وهو ما يشير إلى احتمال الدخول في أزمة بريكست من دون اتفاق مع نهاية عام 2020.

وتبدو بريطانيا في وضع تفاوضي ضعيف مقارنة مع الاتحاد الأوروبي. فاتفاق بريكست اكتفى بتسوية فاتورة الطلاق بين لندن وبروكسل، إضافة إلى إقرار حقوق مواطني الاتحاد الأوروبي في بريطانيا والبريطانيين في الاتحاد. كما وجد حلاً لمعضلة الحدود الأيرلندية ونقاط التفتيش الجمركية بين أيرلندا الشمالية والجمهورية الأيرلندية. ولكن المرحلة المقبلة ستشمل مفاوضات على التجارة والأمن وتبادل المعلومات وحقوق الصيد والخدمات المالية والبحث العلمي وغيرها من المسلّمات التي حصلت عليها بريطانيا في عضوية الاتحاد الأوروبي. وبينما يستورد الاتحاد الأوروبي نصف الصادرات البريطانية، فإن لندن تستورد عُشر صادرات دول الاتحاد. كما أن الاتحاد برهن على كفاءة مفاوضيه وتماسك صفه الداخلي، مقارنة بالفوضى البريطانية. وعكس كبير المفاوضين الأوروبيين ميشال بارنييه، وضوح موقف الاتحاد في مداخلة من استوكهولم، بمطالبة لندن بالمنافسة العادلة إذا أرادت الوصول غير المحدود إلى السوق الأوروبية المشتركة، وأضاف "لا يمكننا أن نتوقّع الاتفاق على كل أوجه الشراكة الجديدة، ولكننا جاهزون لفعل أفضل ما بوسعنا في الأشهر الأحد عشر"، مشيراً إلى عدم واقعية الرغبة البريطانية بالتوصل لاتفاق تجارة حرة شامل بنهاية العام.

في سياق آخر، يمنح تطبيق بريكست جونسون الحرية التي يرغب لإعادة تشكيل بريطانيا وفقاً لرؤيته لقيم تيار "الأمة الواحدة" من حزب المحافظين. فجونسون يصف نفسه بأنه مناهض للمؤسسة الحاكمة، وإن كان ذلك محط خلاف، بينما كان كبير مستشاريه دومينيك كمنغز ومهندس حملته الانتخابية قد دعا إلى إعادة هيكلة حكومية واسعة. وينتظر من جونسون فور الخروج من الاتحاد الأوروبي، أن يقوم بإعادة تنظيم حكومية واسعة تشمل إلغاء وزارة بريكست، ودمج وزارة التنمية الدولية بوزارة الخارجية، إضافة إلى استبدال العديد من الوزراء الحاليين في حكومته. كما سيواجه جونسون تحدياً في الحفاظ على أصوات الدوائر الانتخابية التي صوّتت لصالح حزبه في الانتخابات الأخيرة والتي تقترع تقليدياً لصالح العمال. فتلك الدوائر في شمال إنكلترا، يعتمد اقتصادها على الصناعة التي ستكون أشد المتضررين من بريكست، مقارنة باقتصاد الجنوب البريطاني المبني على الخدمات المالية. كما يواجه جونسون تحدياً أكبر يتلخص في إعادة لمّ شمل الشارع بعد انقسام بريكست، ومواجهة النزعة الانفصالية المتنامية في اسكتلندا وأيرلندا الشمالية.

وعلى الرغم من ثقل المهمة التي تواجه جونسون، وبغض النظر عن سياساته، فإن ضعف موقف حزب العمال يمنح الحكومة المجال للمناورة. فقد دخل أكبر أحزاب المعارضة في أزمة جديدة بعد خسارته الانتخابات العامة الماضية، وتراجع تمثيله في البرلمان، وسط خلاف حول أسباب الهزيمة. ويتجه الحزب لخوض انتخابات لخلافة زعيمه جيريمي كوربن الذي أعلن نيّته الاستقالة من منصبه بعد الإشراف على فترة ينظر فيها العمال في أسباب الهزيمة. وعلى الرغم من أن الانتخابات العمالية قد لا تجري حتى شهر مارس/ آذار المقبل، إلا أن باب الترشح لخلافة كوربن يغلق يوم الإثنين. وتمكن من تجاوز العتبة المطلوبة للترشح كل من: ريبيكا لونغ بيلي، وجيس فيليبس، وليزا ناندي، إضافة إلى كير ستارمر. إلا أن المنافسة عملياً تنحصر بين لونغ بيلي وستارمر. وتُعتبر الأولى "مرشحة استمرارية" للكوربينية السياسية التي هيمنت على العمال منذ عام 2015. ولا ترى لونغ بيلي أن سبب الخسارة هي الكوربينية وإنما في الطريقة التي أديرت بها الحملة الانتخابية. وبذلك تحظى لونغ بيلي، وهي وزيرة الطاقة والأعمال في حكومة الظل العمالية، بدعم مؤيدي كوربن التقليديين مثل لين مكلاسكي، زعيم اتحاد "يونايت" النقابي، وجون لانسمان، زعيم كتلة "مومينتوم".

إلا أن المرشح الأوفر حظاً، وفق استطلاعات الرأي، هو وزير بريكست في حكومة الظل العمالية، المحامي المختص في حقوق الإنسان، كير ستارمر. ويوصف ستارمر بأنه أشد وسطية من تيار كوربن، ويحظى بدعم اتحاد "يونيسون" النقابي، وهو الأكبر في بريطانيا. وكانت استطلاعات الرأي قد منحته تأييد 36 في المائة من أعضاء العمال مقابل 23 في المائة لصالح لونغ بيلي. ويمثل المرشحان الرؤيتين المختلفتين لأسباب الهزيمة في الانتخابات العامة، وستكون لانتخاب أحدهما لزعامة العمال تبعات مفصلية على مسار الحزب في السنوات الخمس المقبلة، وبالتالي على حجم ونوع المعارضة التي سيواجهها جونسون.

المساهمون