كان لحركة الإصلاح الديني في أوروبا، خلال القرن السادس عشر، تأثيرها الواضح على الآداب والفنون فيها، وربما كان أبرزها تحوّل الفنّانين من رسم المواضيع الدينية نحو موضوعات دنيوية؛ مثل الطبيعة الصامتة والبورتريهات، وهو ما قاد لاحقاً إلى ظهور تيارات الحداثة في الفن.
شكّلت هولندا وبلجيكا أهمّ تلك الفضاءات الجديدة التي احتضنت أسماء من أمثال لوكاس فان ليدن ومابيوز، إلى جانب إحدى الأسَر التي ساهم سبعة من أفرادها في إغناء مرحلة بأسرها.
هذه الأُسرة يضيء عليها معرض "بروغل: العالم الرائع للفن الفلمنكي"، الذي افتُتح في "قصر غافيريا" بمدريد مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ويتواصل حتى الثاني عشر من نيسان/ إبريل المقبل.
يضمّ المعرض قرابة مئة عمل تبدأ مع لوحات بيتر بروغل الأب، الذي يُقدَّر أنه عاش بين تسعة وثلاثين وأربعة وأربعين عاماً، وهو الذي وُلد في بلدة بريدا الهولندية ورحل إلى العاصمة البلجيكية. ورغم انتمائه إلى عائلة ثرية، إلّا أنه سيهتمّ برسم المناظر الطبيعية ويوميات الفلّاحين؛ مثل طقوس زواجهم والكرنفالات والمواسم الزراعية، إثر تحوّله من الكاثوليكية إلى البروتستانتية التي ستترك أثراً واضحاً على تكوين فنّاني العصر الهولندي الذهبي في القرن اللاحق.
تعكس أعماله، التي نفّذ معظمهما بالألوان المائية، البساطة ووضوح العناصر المرسومة، حيث رسم الرأس ككرة صغيرة والعين كدائرة سوداء والأجساد تشبه كتلاً صمّاء دون الاعتناء بتفاصيلها، والأزياء موحّدةً أو متقاربة في ألوانها وتصاميمها، وركّز على تعدّد الأسطح وإظهار التباين الشديد بين الأشكال.
تتبّع بيتر بروغل الأصغر (1564 - 1637)، طريق والده وأسلوبه، وقد نسَخ العديد من لوحاته ووضع لوحات أخرى موضوعها الأساسي الحياة الريفية، بينما بدا شقيقه يان بروغل الأكبر (1568 - 1625)، أكثر تحرّراً في تقليد الأب، وتنوّعاً في رسم الزهور والبحر ومراكب الصيد والمشاهد الأسطورية، مُظهراً التفاتاً أكبر إلى دراسة الطبيعة من خلال رسم الحيوانات والطيور وتشريحها، وقد عاش الفنانان كجزء من مجموعة الفلمنك (التي تتحدث الهولندية) في مملكة بلجيكا الحديثة.
يعرض المنظّمون لوحات لبقية أفراد العائلة وفق ترتيبهم: يان بروغل الأصغر (1601 - 1678)، ويان بيتر بروغل (1628 - 1664)، وآبراهام بروغل (1631 - 1690)، وأمبروسيوس بروغل (1617 - 1675)، ولقرابة عشرين فناناً آخرين، قدّم بعضهم أعمالاً مشتركة مع فنّانين من العائلة أو كانوا قريبين منهم، من بينهم روبنز وبوش وديفيد تينيرز الأصغر.
تقدّم مجموع هذه الأعمال صورة شاملةً حيّة عن واقع القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتستكشف الفولكلور المرتبط بحياة الفلمنك والبلجيكيين في الريف بأسلوب واقعي ينحو باتجاه السخرية أحياناً في وصف نشاطهم وعلاقاتهم الاجتماعية وكيفية تعاملهم مع المسؤولين ومحصّلي الضرائب، خاصة تلك التي قُدّمت كبانوراما موسّعة تحتوي مشاهد عديدة غير متّصلة داخل اللوحة الواحدة.
يُعدّ الشتاء موضوعاً أثيراً لدى عدد من فنّاني العائلة الذين رصدوا التغيّرات في طبيعة الحياة خلال ذلك الفصل، وبدرجةٍ أقلّ الصيف الذي يكون الحصاد العنصر الأكثر تكراراً في لوحاته، وغيرها من التفاصيل في أعمال غير معروفة ومتداولة سابقاً، والتي يحتوي بعضها مقاربات لموضوعات دينية وفق رؤية أفراد العائلة الإصلاحية.