28 أكتوبر 2024
برهان غليون بين المثقف والسياسي
إشكالية علاقة المثقف بالسياسة مضاعفة ومتوترة في العالم العربي، بسبب الهوة التاريخية والمعرفية بين عالم الفكر الذي تحكمه الرؤية المعيارية القيمية، وعالم الواقع الذي تحكمه لغة المصلحة والانتهازية، وما هو كائن. في العالم الغربي الحديث، ليست ثمّة إشكالية بين المثقف والسياسة، بسبب الفضاء الديمقراطي الليبرالي القانوني الذي يسمح للمثقف بمعاينة القضايا السياسية والاجتماعية والتأطير فيها... هكذا طرح مفكرون كثيرون، في مرحلتي الحداثة المتأخرة وما بعد الحداثة، معضلات وحلولا لمشكلات كثيرة تواجه أنظمة الحكم الغربية المعاصرة، والعلاقات المتداخلة بين الفضاءات السياسية والفضاءات المدنية السياسية/ الاجتماعية، غير أن الأمر في العالم العربي يختلف كثيرا، ولعل التجارب العربية بعيد الثورات، في بلدان عربية كثيرة، كشفت عورة هذه العلاقة، فلا المثقف قادر على تأطير فكره في مجريات العمل السياسي، ولا هو قادرٌ على ممارسة السياسة وفق مقتضياتها الخاصة، وعزل خلفياته الفكرية.
يعكس كتاب "عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل. سورية 2011 - 2012" للمفكر العربي السوري، برهان غليون، هذه الأزمة، والحالة التراجيدية التي يعانيها المثقف في خضم العمل السياسي. الكتاب وثيقة تاريخية في غاية الأهمية، من حيث إنه يكشف آليات التفكير الفردي والجمعي لشخصيات المعارضة السورية، بشقيها السياسي والعسكري، ومستويات تفكيرها، وعدم نضوجها في العمل الجمعي.
لقد ضُربت المصلحة العامة بسياط الذات الباحثة عن معنى وكينونة، وطغت الأنا الفردية بكل
حمولاتها المأزومة على الأنا الجمعية الباحثة عن دور. هكذا استحالت السياسة لدى المعارضة السورية إلى تغليب المصلحة الفردية على المصلحة الوطنية، الأمر الذي أدّى، بالضرورة، إلى تغليب العمل الدسائسي والمؤامراتي التخريبي على العمل الديمقراطي التعاوني. ولا يعني ذلك أن برهان غليون لا يتحمل جزءا من المسؤولية. مسؤوليته تكمن في اللحظة التي قبل فيها العمل في السياسة، من دون إدراك منه لواقع العمل السياسي وطبيعته، والشخوص التي يعمل معها، وطبيعة التوازنات الإقليمية والدولية.
في مطلع عام 2014، التقيتُ غليون في أحد أروقة فنادق بلدة مونترو في سويسرا، وقلت له: أريد أن أسألك سؤالا، وأتمنى ألا تنزعج منه: ألست نادما لأنك تركت علياء الفكر وهبطت إلى حضيض السياسة؟ كان جوابه متسرعا، وقال: لأجل خدمة البلد. .. أجبته: مثلك يخدم البلد في مكانه الطبيعي مفكرا ومنظرا، لا في مستنقع السياسة، حيث شروط العمل السياسي غير متوفرة، وحيث الشخوص الفاعلة في العمل السياسي المعارض غير ناضجة سياسيا ومهنيا.
حالة الحزن والأسى واضحة في سطور "عطب الذات". وبقدر ما هي تعكس عدم قدرة الآخرين على الارتقاء إلى مستوى سياسي، يكون جزءا من حقل ثقافي أوسع، بقدر ما عكست هذه السطور فشل برهان غليون في ممارسة العمل السياسي من خارج الإطار الثقافي. وربما تكون هذه هي إشكالية كل المثقفين العرب، اللهم ما استثني منهم، ويمثل عزمي بشارة استثناء عربيا، بسبب تجربته الطويلة في النضال السياسي على الأرض، أولا على هامش المركز السياسي قبيل وصوله إلى الكنيست الإسرائيلي. ولاحقا من داخل المركز السياسي، حين كان نائبا في الكنيست، واستطاع أن يدمج بين العمل السياسي الأداتي والعمل الثقافي الذي انعكس واضحا على كثير من النخب الفكرية الفلسطينية في الداخل، ورؤيتها إلى يهودية الدولة وفهمها للديمقراطية والصراع الديمقراطي.
وليس مصادفةً أن يهنئ مكيافيلي البابا ألكسندر الثالث، لأنه أظهر، أكثر من أي بابا آخر، المقدار الذي يمكن به تعزيز البابوية عن طريق التحالفات المتبدلة والمال والقومية المسلحة، لا عن طريق القيم المسيحية التي تمثلها الكنيسة، من حيث هي بناء ديني ليس إلا. باختصار، ما عرضه كتاب "عطب الذات" لمسار المعارضة السورية في السنوات التسع الماضية يؤكد أن لا إمكانية لإعادة تصحيح المسار، وإجراء مراجعات. هذا غير ممكن في ظل الشخوص نفسها، ذلك أن التأسيس الديمقراطي يتطلب، كما كتب عزمي بشارة في كتابه "المسألة العربية"، وجود شخصيات ديمقراطية وبرامج ديمقراطية. ولذلك، المطلوب هو حدوث ثورة من داخل المعارضة السياسية لتصحيح المسار وآليات العمل، والوقت لم يفت، لأن المسار السياسي التفاوضي الفعلي مع النظام في سورية لم يبدأ بعد.
يعكس كتاب "عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل. سورية 2011 - 2012" للمفكر العربي السوري، برهان غليون، هذه الأزمة، والحالة التراجيدية التي يعانيها المثقف في خضم العمل السياسي. الكتاب وثيقة تاريخية في غاية الأهمية، من حيث إنه يكشف آليات التفكير الفردي والجمعي لشخصيات المعارضة السورية، بشقيها السياسي والعسكري، ومستويات تفكيرها، وعدم نضوجها في العمل الجمعي.
لقد ضُربت المصلحة العامة بسياط الذات الباحثة عن معنى وكينونة، وطغت الأنا الفردية بكل
في مطلع عام 2014، التقيتُ غليون في أحد أروقة فنادق بلدة مونترو في سويسرا، وقلت له: أريد أن أسألك سؤالا، وأتمنى ألا تنزعج منه: ألست نادما لأنك تركت علياء الفكر وهبطت إلى حضيض السياسة؟ كان جوابه متسرعا، وقال: لأجل خدمة البلد. .. أجبته: مثلك يخدم البلد في مكانه الطبيعي مفكرا ومنظرا، لا في مستنقع السياسة، حيث شروط العمل السياسي غير متوفرة، وحيث الشخوص الفاعلة في العمل السياسي المعارض غير ناضجة سياسيا ومهنيا.
حالة الحزن والأسى واضحة في سطور "عطب الذات". وبقدر ما هي تعكس عدم قدرة الآخرين على الارتقاء إلى مستوى سياسي، يكون جزءا من حقل ثقافي أوسع، بقدر ما عكست هذه السطور فشل برهان غليون في ممارسة العمل السياسي من خارج الإطار الثقافي. وربما تكون هذه هي إشكالية كل المثقفين العرب، اللهم ما استثني منهم، ويمثل عزمي بشارة استثناء عربيا، بسبب تجربته الطويلة في النضال السياسي على الأرض، أولا على هامش المركز السياسي قبيل وصوله إلى الكنيست الإسرائيلي. ولاحقا من داخل المركز السياسي، حين كان نائبا في الكنيست، واستطاع أن يدمج بين العمل السياسي الأداتي والعمل الثقافي الذي انعكس واضحا على كثير من النخب الفكرية الفلسطينية في الداخل، ورؤيتها إلى يهودية الدولة وفهمها للديمقراطية والصراع الديمقراطي.
وليس مصادفةً أن يهنئ مكيافيلي البابا ألكسندر الثالث، لأنه أظهر، أكثر من أي بابا آخر، المقدار الذي يمكن به تعزيز البابوية عن طريق التحالفات المتبدلة والمال والقومية المسلحة، لا عن طريق القيم المسيحية التي تمثلها الكنيسة، من حيث هي بناء ديني ليس إلا. باختصار، ما عرضه كتاب "عطب الذات" لمسار المعارضة السورية في السنوات التسع الماضية يؤكد أن لا إمكانية لإعادة تصحيح المسار، وإجراء مراجعات. هذا غير ممكن في ظل الشخوص نفسها، ذلك أن التأسيس الديمقراطي يتطلب، كما كتب عزمي بشارة في كتابه "المسألة العربية"، وجود شخصيات ديمقراطية وبرامج ديمقراطية. ولذلك، المطلوب هو حدوث ثورة من داخل المعارضة السياسية لتصحيح المسار وآليات العمل، والوقت لم يفت، لأن المسار السياسي التفاوضي الفعلي مع النظام في سورية لم يبدأ بعد.