29 سبتمبر 2017
برلين المسكونة بالذكريات العصيّة
كنت في برلين أخيراً. أسرتني منذ زيارتي الأولى لها في السبعينيات. كانت ولا تزال مسكونة بذكريات عصية على النسيان، وبصراع لا يهدأ بين تاريخها العمراني وتاريخ البشر الذين سكنوها أو أحبوها أو حاولوا إزالتها من الوجود. تختلف برلين عن العواصم الأوروبية بتاريخها القاسي، فهي المدينة المنقسمة منذ نهاية الحرب العالمية وإلى عتبة التسعينيات، وهي مدينة الجدار الأشهر في تلك الحقبة التاريخية، وهي المدينة التي حطمت الجدار، ولا تزال منشغلة في لملمة شظاياها، لتكون موحدةً، يشعر سكانها بألفة المكان وحميميته. هي الآن عاصمة ألمانيا كلها، بمختلف فيدرالياتها، وهي رمز الهوية الألمانية التي تعرّضت إلى أعنف عملية تقسيم وتشظ. وهي، في وحدتها، تمثل القومية والحداثة الألمانيتين اللتين تأسستا، وأعيد تأسيسهما، عبر عمليةٍ تاريخيةٍ من أعنف ما شهده التاريخ الحديث. ولذا، لا يمكننا وصفها مدينة حديثة، فقد ولدت من رحم التاريخ، وخرجت من الرماد، ونفضت غباراً كثيراً، وهشّمت صوراً أُلصقت بها لكي تكون مدينةً، تمسك بماضيها، وتسير نحو مقامها بين المدن التي لم تعش تجربة الدمار الذي عاشته.
في مرحلة التقسيم، عاشت برلين تحت سيطرة الأيديولوجيتين، الاشتراكية والرأسمالية، وهي مفتوحة اليوم على سباقٍ تخوضه أعراق وأفكار وتيارات مختلفة، تبحث عن مطرحٍ ثابت لها في صناعة وجه المدينة المتحولة، والصاعدة من الماضي القريب.
لم يعد هناك مركز محدد للمدينة، ففي الماضي، كان لبرلين الشرقية مركزها، وللغربية مركزها. واليوم، لم يعد ألكسندر بلاتز وسط الشرقية، ولا الكودام وسط الغربية يمثلان وسط برلين الموحدة. وتحس وأنت في المدينة بأن الضواحي والحارات زحفت بكل ثقلها وطموحها، لتشكل جميعاً مركزاً هو مراكز في حقيقة الأمر. شيء ما يذكّر ببيروت بعد الحرب الأهلية اللبنانية. كان لبيروت وسطٌ يسمونه "البلد" قبل الحرب، يمثل نقطة التجمع لكل اللبنانيين من مختلف المحافظات، حيث حياة المدينة تجري هناك بكل تفاصيلها. ومع التدمير الذي شهده وسط بيروت، لم يعد البلد وسطاً، وتحول إلى ما سماه اللبنانيون "داون تاون"، وكأن التسمية اختصرت مآلات بيروت، لتدلّ على طبقةٍ معينةٍ شغلت هذه البقعة، وراحت الضواحي تتحوّل إلى مراكز متعدّدة، وصار للمدينة أوساط وبلدان.
لا حنين إلى الماضي في برلين سوى لدى بعض سكان برلين الشرقية، في ظل النظام الاشتراكي الذين يحسّون بأنهم فقدوا الأمان الذي وفرته الاشتراكية إلى حد ما، وأفزعتهم عجلة الحياة الرأسمالية التي لم يعودوا قادرين على اللحاق بها. وربما هناك حنين إلى ذلك الماضي لدى المنحدرين من طبقة البيروقراطية الاشتراكية المستفيدة من الامتيازات والفساد في النظام الاشتراكي. هناك حنين إلى المستقبل في برلين، حنين فئاتٍ مختلفةٍ لتأكيد وجودهم الحيوي في نسيج المدينة، المفتوح على تأكيد الذات في حرية التنافس في المجتمع الرأسمالي، مثل يهود برلين الذين كانوا يمثلون قبل الحرب أربعة بالمائة من سكانها، وتقلص عددهم مع صعود النازية، وصار اليوم وجودهم الذي اضمحل قبل التوحيد واضحاً، من خلال ازدياد عدد الكنس والمراكز الثقافية والمطاعم وهجرة آلاف من اليهود من جمهوريات الاتحاد السوفييتي. وإلى هذه الفئة، تصاعد وجود مجتمع المثليين ظاهرة اجتماعية واضحة، يبحثون عن مكانٍ لهم في نسيج المدينة، من خلال القانون والنشاط الثقافي. أما العرب فقد باتوا، أيضاً، يمثلون فئة واضحة في مجتمع برلين، وخصوصاً مع وجود جالياتٍ من المسلمين العرب والأتراك والإيرانيين والأفغان وغيرهم.
عادت برلين، اليوم، عاصمة للأمة الألمانية، كما كانت منذ القرن الخامس عشر، لكنها اليوم مدينة كونية للفنون جميعاً، وللذكريات المتصارعة على البقاء أو، في أحيان كثيرة، على الاختفاء شغفاً بالحنين إلى مستقبلٍ بلا خوف أو موت أو تقسيم.
في مرحلة التقسيم، عاشت برلين تحت سيطرة الأيديولوجيتين، الاشتراكية والرأسمالية، وهي مفتوحة اليوم على سباقٍ تخوضه أعراق وأفكار وتيارات مختلفة، تبحث عن مطرحٍ ثابت لها في صناعة وجه المدينة المتحولة، والصاعدة من الماضي القريب.
لم يعد هناك مركز محدد للمدينة، ففي الماضي، كان لبرلين الشرقية مركزها، وللغربية مركزها. واليوم، لم يعد ألكسندر بلاتز وسط الشرقية، ولا الكودام وسط الغربية يمثلان وسط برلين الموحدة. وتحس وأنت في المدينة بأن الضواحي والحارات زحفت بكل ثقلها وطموحها، لتشكل جميعاً مركزاً هو مراكز في حقيقة الأمر. شيء ما يذكّر ببيروت بعد الحرب الأهلية اللبنانية. كان لبيروت وسطٌ يسمونه "البلد" قبل الحرب، يمثل نقطة التجمع لكل اللبنانيين من مختلف المحافظات، حيث حياة المدينة تجري هناك بكل تفاصيلها. ومع التدمير الذي شهده وسط بيروت، لم يعد البلد وسطاً، وتحول إلى ما سماه اللبنانيون "داون تاون"، وكأن التسمية اختصرت مآلات بيروت، لتدلّ على طبقةٍ معينةٍ شغلت هذه البقعة، وراحت الضواحي تتحوّل إلى مراكز متعدّدة، وصار للمدينة أوساط وبلدان.
لا حنين إلى الماضي في برلين سوى لدى بعض سكان برلين الشرقية، في ظل النظام الاشتراكي الذين يحسّون بأنهم فقدوا الأمان الذي وفرته الاشتراكية إلى حد ما، وأفزعتهم عجلة الحياة الرأسمالية التي لم يعودوا قادرين على اللحاق بها. وربما هناك حنين إلى ذلك الماضي لدى المنحدرين من طبقة البيروقراطية الاشتراكية المستفيدة من الامتيازات والفساد في النظام الاشتراكي. هناك حنين إلى المستقبل في برلين، حنين فئاتٍ مختلفةٍ لتأكيد وجودهم الحيوي في نسيج المدينة، المفتوح على تأكيد الذات في حرية التنافس في المجتمع الرأسمالي، مثل يهود برلين الذين كانوا يمثلون قبل الحرب أربعة بالمائة من سكانها، وتقلص عددهم مع صعود النازية، وصار اليوم وجودهم الذي اضمحل قبل التوحيد واضحاً، من خلال ازدياد عدد الكنس والمراكز الثقافية والمطاعم وهجرة آلاف من اليهود من جمهوريات الاتحاد السوفييتي. وإلى هذه الفئة، تصاعد وجود مجتمع المثليين ظاهرة اجتماعية واضحة، يبحثون عن مكانٍ لهم في نسيج المدينة، من خلال القانون والنشاط الثقافي. أما العرب فقد باتوا، أيضاً، يمثلون فئة واضحة في مجتمع برلين، وخصوصاً مع وجود جالياتٍ من المسلمين العرب والأتراك والإيرانيين والأفغان وغيرهم.
عادت برلين، اليوم، عاصمة للأمة الألمانية، كما كانت منذ القرن الخامس عشر، لكنها اليوم مدينة كونية للفنون جميعاً، وللذكريات المتصارعة على البقاء أو، في أحيان كثيرة، على الاختفاء شغفاً بالحنين إلى مستقبلٍ بلا خوف أو موت أو تقسيم.