عاشت سورية أخيراً منخفضاً جوياً حمل معه أمطاراً غزيرة، لطالما كان السوريون يحتفلون بها، مستبشرين بعام تجود فيه الأرض بخيراتها عليهم. لكن أحوال السوريين في فصل الشتاء هذا، لا تشبه تلك التي سبقتها في السنوات الماضية، خصوصاً أن مئات الآلاف محاصرون في مناطقهم على خلفيّة الحرب الدائرة في البلاد، في مناطق شبه مدمّرة ومنازل متصدعة وفي ظلّ عدم توفّر مواد غذائية وطبية ومحروقات للتدفئة. بالتالي، فإن الأيام التي تنتظرهم في الأشهر المقبلة، لا بدّ أنها قاسية ومؤلمة.
الحليب ليس قنابل
أم عمر من أهالي الزبداني المحاصرين في بلدة مضايا، تقول لـ "العربي الجديد": "لا نعلم إن كنا سنعيش حتى يشتدّ البرد أم لا. الوضع اليوم سيئ للغاية، ونحن لا نملك ما ندفع به الجوع عن أبنائنا. لا نملك ما يؤمّن الغذاء للأطفال خصوصاً". وتسأل: "هل حليب الأطفال يُستخدم في صناعة القنابل؟". تضيف أن "لا وقود لدينا بالمطلق، فهي من المحرمات. نحن كنا نستعيض عنه بإشعال بعض الملابس أو أثاث المنزل أو البلاستيك، لطهي بعض الأعشاب التي نلتقطها من هنا وهناك. أعتقد أن تلك ستكون بديل الوقود الوحيد للتدفئة، خصوصاً أن شتاء منطقتنا يشتهر بكثرة الثلوج والبرد القارس".
وتلفت أم عمر إلى أنهم ممنوعون من الوصول إلى بساتينهم، للحصول على بعض الخضار أو الفواكه أو الحطب، "وأي شخص يخرج من المنطقة السكنية يتعرّض إلى القنص بشكل مباشر. وقبل أيام، قتل عدد من الأشخاص خلال محاولتهم إدخال حليب للأطفال". تتابع أن "القوات النظامية تقطع أيضاً الأشجار المثمرة من سهل الزبداني ومضايا، وتبيعها كحطب في دمشق".
ارتفاع أسعار المحروقات
من جهته، يقول الناشط الإعلامي رائد المشقي من جنوب دمشق المحاصر لـ "العربي الجديد"، إنه "مع حلول فصل الشتاء وهطول الأمطار، راحت الحالة الإنسانية في جنوب دمشق تتفاقم سوءاً بشكل يومي. العائلات لا تملك ما تتدفأ به، فهي لم تركب هذا العام أي نوع من المدافئ، بسبب ارتفاع أسعار المواد الخاصة بوقودها. على سبيل المثال، يتراوح سعر الكيلوغرام الواحد من الحطب ما بين 100 و150 ليرة سورية (0.26 - 0.40 دولار أميركي) بحسب نوعيته. تجدر الإشارة إلى أن أكثر الحطب المتوفّر هو حطب قُطع أخيراً ولم يجفّف بشكل جيد، ما يزيد من وزنه ويجعل عملية إشعاله صعبة". يضيف: "أما بالنسبة إلى المازوت، فسعره أيضاً مرتفع، هذا إن توفّر. ويتراوح ثمن اللتر الواحد من المازوت ما بين 700 و 800 ليرة (1.86 - 2.13 دولار)، في حين يتراوح سعر اللتر الواحد من المازوت الصناعي - المستخرج من المواد البلاستيكية - ما بين 450 و600 ليرة (1.2 - 1.6 دولار)".
ويلفت المشقي إلى أن "أكثر العائلات المحاصرة في جنوب دمشق منذ أكثر من عامَين، هي عائلات فقيرة ليس لديها أي دخل مادي، باستثناء ما تحصل عليه عن طريق الجمعيات الخيرية". ويستعيد وضع العائلات خلال الشتاء الماضي قائلاً إن "العائلات عانت حينها من البرد بشكل كبير، خصوصاً الأطفال الذين عانوا بشكل مضاعف وأصيبوا بأمراض تنفسية والتهابات، بسبب حرق النايلون والبلاستيك في التدفئة. على الرغم من مضارها الصحية الكبيرة، إلا أن لا خيارات أخرى أمام الناس. إما أن يستخدموها أو يموتوا من البرد".
إلى ذلك، تعاني العائلات في جنوب دمشق من تصدّع منازلها، من جرّاء تعرّض المنطقة إلى القصف بشتى أنواع الأسلحة. وأجزاء كبيرة منها لم تعد صالحة للسكن، الأمر الذي يجعلها غير قادرة على ردّ البرد عن ساكنيها.
على أبواب كارثة
محمد السباعي ناشط من حيّ الوعر المحاصر في حمص، يقول لـ "العربي الجديد" إن "هذا الحيّ هو آخر معاقل الفصائل المعارضة المسلحة في مدينة حمص، وفيه نحو 125 ألف نسمة من المدنيين المهجّرين من حمص المدينة وبعض سكان الحيّ الأصليين". يضيف أن "هؤلاء محاصرون منذ نحو ثلاث سنوات، إلا أنه خلال فترات الهدنة، كانت تدخل إليهم بعض المواد الغذائية والطبية. لكن قبل أكثر من شهرين، فرضت مليشيات موالية حصاراً مطبقاً على الحيّ ومنعت إدخال جميع المواد الإغاثية، وعمدت إلى تصعيد عسكري متقطع".
اقرأ أيضاً: سكان مخيم سوري يهربون من البرد إلى الكهوف
ويرى السباعي أن "الحيّ على أبواب كارثة إنسانية حقيقية، خصوصاً مع بداية فصل الشتاء. برد حمص القاسي بدأ يقرع أبواب ساكنيها". لكنه يلفت إلى أن "أهالي الحيّ يعملون على جمع الحطب وقطع ما تبقى من الأشجار المزروعة في الطرقات والحدائق من جذورها. ومن ثم يقطعونها ويجهّزونها. لكن الكميات قليلة جداً، ما يدفعهم إلى جمع بقايا البلاستيك والأخشاب المكسّرة من تحت أنقاض المنازل المهدّمة على الرغم من خطورة الأمر. من الممكن أن يفقد المرء حياته خلال تلك العملية، لأن موقع تلك المنازل يعدّ خطوط تماس مع قوات النظام".
ويؤكد السباعي أن "المحروقات بأشكالها من غاز منزلي وبنزين ومازوت معدومة في الحي، في حين يبلغ ثمن الكيلوغرام الواحد من الحطب 175 ليرة (0.64 دولار)"، مشيراً إلى أن "من يفكر في الاستعاضة عن مواد التدفئة من خلال ارتداء ثياب سميكة، فإنه يواجه أيضاً مشكلة ارتفاع أسعارها بشكل كبير بالمقارنة مع إمكاناته المادية. الشخص الواحد في حاجة إلى 30 ألف ليرة (80 دولاراً) للحصول على بدل من الثياب الشتوية. وهو ما يضطر الناس إلى تدبر أمورهم بثيابهم القديمة أو ما قد يجدونه في المنازل المدمّرة".
ويتابع السباعي أن "حتى المواد الغذائية التي من الممكن أن تعين في تحمّل البرد، تكاد تختفي بشكل كامل من الحيّ. وما يتبقى يُباع بأسعار خيالية. سعر الكيلوغرام الواحد من السكر 2500 ليرة (6.66 دولارات)، والأرزّ 175 ليرة (نحو 0.64 دولار)، والشاي 5000 ليرة (13.33 دولاراً)، وربطة الخبز 75 ليرة (0.20 دولار) إن توفّرت. أما البرغل والملح والزيت فمقطوعة كلياً".
اقرأ أيضاً: الأشجار المثمرة مهرب السوريين من برد الشتاء