أصدرت "الهيئة المصرية العامة للكتاب" مؤخراً ترجمة جديدة لكتاب الموظف في وزارة المستعمرات البريطانية برترام توماس (1893- 1950) تحت عنوان "العربية السعيدة: عبور الربع الخالي في الجزيرة العربية".
هناك إضافة تقدّمها هذه الطبعة لأن الترجمة القديمة المنشورة في عام 1981، والصادرة عن وزارة التراث القومي والثقافة العُمانية، لمترجمها الراحل محمد أمين عبد الله، أهملت ترجمة تقديم ت.أي. لورنس (1888-1935) للكاتب وكتابه، وتصدير الكاتب نفسه لكتابه، كما أهملت ترجمة ملحقٍ مهم دقّق فيه السير آرثر كيث ود. كروغمان في مدى علمية ملحوظات توماس الأنثروبولوجية التي خرج بها، وملاحق أخرى صنّف فيها مجموعاته التي عاد بها من حيوانات وطيور وحشرات، ونشر صور بعض النقوش، ونصاً موسيقياً لألحان بعض الأغاني التي سمعها في جبال القرا العمانية.
يضاف إلى ذلك ما اعترى العنوان من بُعد عن الأصل، فبدلاً من أن يكون ترجمة للعبارة اللاتينية Arabia Felix أي العربية السعيدة، أوردته الترجمة العُمانية "البلاد السعيدة"، فضاعت دلالته الجغرافية المحددة بجنوبي الجزيرة العربية كما وضعها الرومان وقد تبنى المؤلف تسميتهم هذه، علماً أنهم هم الذي قسموا جغرافية الجزيرة العربية إلى ثلاث مناطق، هي العربية الصخرية (البتراء) والعربية الصحراوية، ثم العربية السعيدة. وظلت الترجمة العمانية متمسكة بعبارة "البلاد السعيدة" كعنوان، حتى حين قامت وزارة التراث القومي العمانية بعد ذلك بنشر الملحق المهمل المشار إليه في كتاب مستقل في عام 1984.
في الترجمة الجديدة التي أنجزها صبري محمد حسن، أستاذ اللغويات في "جامعة القاهرة"، يعود برترام توماس، الموظف الذي عمل في العراق وشرقي الأردن خلال سنوات الاحتلال البريطاني لهذين البلدين، إلى الواجهة مجدداً مع عودة الأساطيل والقواعد الأجنبية إلى أجزاء مهمة من الوطن العربي. قد يكون تلازم الوجهين؛ وجه المترحّل، ورسام الخرائط، ومصنف الأعراق واللهجات، ووجه المستعمر القادم على ظهور السفن والطائرات، مصادفة، إلا أنها ستكون من أغرب المصادفات إن كانت كذلك فعلاً.
يعد هذا الموظف أول رحالة غربي يخترق صحراء الربع الخالي، أو بحر الرمال كما يعرفه السكان المحلّيون هناك، على ظهر جمل، بصحبة أفراد من قبائل محلّية تخوّفوا من هكذا مغامرة، ليس بسبب عواصف وجفاف وحرارة أرض تفترشها كثبان رملية عالية فقط، بل بسبب الثارات القبلية الناجمة عن حروب ونزاعات وغزوات لم تكن تهدأ إلا لتندلع كما يخبرنا هذا المترحل. وهكذا كان عليه أن يدفع لهم مالاً يغريهم بمرافقته، وهذا هو ما حدث.
بعضهم لم يكتف ببضع دولارات، بل طلب تزويده بالذخيرة، فهؤلاء القبائليون لا يعدون الرجل رجلاً من دون "بندقية" و"جنبية"، أي خنجر يتحزّم به في غدوه ورواحه. باستثناء ذلك لم يكشف أي فرد من هؤلاء، أو أي شخص نصادفه في هذه السيرة، سيرة الرحلة التي يرويها توماس بوصفها رحلته الشخصية كما يقول، عن أي نبأة معرفية ذات أهمية، أو حتى فضول يستنطق الأحجار ونقوشها التي كانوا يمرّون بها، وتلفت نظر البريطاني فينقل شيئاً منها إلى أوراقه، أو يلتقط صوراً لها.
الآثار التي مرت بها هذه الرفقة كانت على أطراف الربع الخالي وفي قلبه. ولم تكن شيئاً يمكن أن يمرّ به العابر مرور الكرام، فهي حسب الوصف أعمدة حجرية لهياكل، وعليها كتابات تذكّر فوراً بكتابات الخط المسند الشهير (أخطأ توماس حين حسبها نقوشاً حبشية). هذه الهياكل أو بقاياها تشير إلى مناطق كانت عامرة في أزمنة سحيقة، أي قبل أن يتصحّر المكان ويطغى طوفان الرمال، ويتحوّل سكانها إلى حكايات تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.
إحدى هذه الحكايات هي حكاية "أوبار" الثرية ذات القلعة الذهبية التي روى القبائليون للبريطاني خبرها كما سمعوه من أجدادهم، قبل أن يطمرها بحر الرمال. واستمع البريطاني إلى هذه الحكاية وغيرها من حكايات تشبه الأساطير، وذهنه مشغول في محاولة تصنيف هؤلاء ممّن التقى بهم في طريقه حسب أعراقهم، وأدواته أدوات قياس محيط الجماجم، وطول القامات، وتسجيل ملامح الوجوه، ليخرج بحصيلة يقول إنها ضرورية للأنثروبولوجيين. إلا أنه يستبق ما قد يقوله هؤلاء، فيروي ببساطة أنه في ضوء احتكاكه بعرب وادي الرافدين وشرقي الأردن ثم بعرب جنوبي الجزيرة العربية، في ظفار خاصة، شعر بوجود فروق جوهرية بينهم.
ويَرجع هنا المؤلف إلى الرحالة رتشارد بيرتون (1821- 1890) وينقل عنه اكتشافه في هذه البلاد ليس لفروق جسدية فقط، بل وألسنية وثقافية، مما يعني في رأيه عدم وجود هوية عرقية لسكان الجزيرة العربية. ولم تكن مسألة تمييز الناس عرقياً هي وحدها شغله الشاغل بسبب أنها كانت الشغل الشاغل للقرن التاسع عشر الأوروبي، بل كانت تشغله مسألة مضافة مما شاع في أجواء ذلك القرن الذي انغمس انغماساً تاماً في عوالم توراتية كان الغرب يستمد منها حوافز للغزو والسلب في أمكنة شتى، في اسكتلندا وإيرلندا وجنوب أفريقيا والأميركيتين وأستراليا، وأخيراً في الوطن العربي. فنجده يربط بين ظفار وعوالم التوراة، أو يظن أن هذه الهياكل الحجرية في أعماق بحر الرمال هي ربما المناطق التي جاءت منها أعمدة ما يسمى معبد سليمان!
لم تشغلنا كثيراً ملحوظات توماس الجانبية حول متاعب الرحلة ومشاكل التجهيزات وما إلى ذلك، مثلما لم يكن هذا ما يشغله، بل ما كان يعتبره مهمته الأساسية؛ تسجيل طبائع الناس الذين حلّ بينهم، لغاتهم ولهجاتهم وأعراقهم، ووضع خريطة للجغرافية الطبيعية والبشرية ستكون أكثر من مفيدة، ليس لعلماء الأنثروبولوجيا فقط، بل لوزارة المستعمرات التي جنّدت في مهمّة غزو العالم العسكريين وعلماء الآثار واللغات وأصحاب شتى المهن بلا استثناء.
كان الأمر استكشافاً بالفعل، ليس للربع الخالي فحسب، ذاك الذي لم يكن قد وضع على خرائطهم بعد، بل لكل جغرافية إنسانية وطبيعية مرشحة لتكتسحها جيوش وزارات المستعمرات.