19 مارس/آذار 2011 يوم لا ينسى في تاريخ مصر، فقد خرج ملايين المصريين يدلون بأصواتهم في التعديلات الدستورية، وذلك في أعقاب خلع مبارك من الحكم. ربما هناك تفسيرات وتحليلات كثيرة لما حدث في هذا اليوم، وما كان يجب فعله في هذه المرحلة، ربما لا يسمح المجال هنا لذكره ومناقشة تداعيات هذا اليوم، ولكن الشيء الواضح الذي حدث يوم معركة الاستفتاء هو أن هذا التاريخ كان بداية لاستقطاب في المجتمع المصري، وهو الاستقطاب على الدين.
نعم هذا اليوم وضعت بذرة الاستقطاب والانقسام بعد انتهاء شهر عسل الوحدة والالتفاف حول الهدف المشترك الذي عاشه المصريون في ميدان التحرير لمدة ثمانية عشر يوماً والجمعات التالية للتنحي، مثل جمعة النصر وجمعة عصام شرف. مع الدعوة الخبيثة للاستفتاء الذي ثبت لاحقاً أنه لا داعي له، إذ أهدر ببيان 30 مارس/آذار، الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري، وضعت بذرة الاستقطاب الإسلامي العلماني، وهي البذرة التي نمت يوماً بعد يوم. فقد أصرت القوى السياسية على أن تجعل معركة الاستفتاء معركة للقضاء على الخصم السياسي التقليدي، في تعجل عجيب لقطف ثمار الثورة ولا أنسى ما قاله لي أحد كبار التيار الإسلامى "إنها فرصتنا لإظهار قوتنا، وسيعرف الآخرون حجمهم الحقيقي". وهذا ما فهمه جيداً التيار المدني فدعا إلى التصويت المضاد، هنا وجد ائتلاف شباب الثورة، والذي تكون من مجموعات شبابية متعددة الاتجاهات، وكان له دور كبير في ثورة يناير، والذي عبر اسمه عن هذه الحالة التجميعية داخل ميدان التحرير، أنه أمام مأزق حقيقي، وأن الصراع بدأ مبكراً، فحاول جاهداً أن يتحرك لوقف الاستفتاء أو تأجيله حتى يتم التوافق بين القوى السياسية على المسار الذي سنسير فيه وعلى قواعده، أو على أقل تقدير على موقف موحد من الاستفتاء، ولكن تحركات شباب الائتلاف لم تنجح في إقناع التيار الإسلامي أو التيار المدني أو المجلس العسكري، فالكل كان يراهن على المكسب من هذه المعركة الاستقطابية.
وكل ما استطاعه ائتلاف شباب الثورة هو أن يحافظ على وجوده لأطول فترة ممكنة، وحاول معالجة آثار معركة 19 مارس بالالتفات إلى أصل الصراع، وهو الصراع ضد النظام المباركي، فدعا الائتلاف منفرداً، بعد رفض القوى السياسية، إلى التظاهر يوم الجمعة 1 أبريل/نيسان 2011، وسماها جمعة إنقاذ الثورة، وهي الدعوة التي أربكت الجميع، وأعادت الثورة إلى الميدان، وكانت بداية الضغط من أجل محاكمة النظام ورأسه.
ملخص ما حدث أننا كنا أمام معركة استقطابية دينية بين القوى الإسلامية من ناحية والقوى المدنية من ناحية أخرى، وهناك مجموعات شبابية تصرخ أن أوقفوا هذه المعركة، والتفتوا إلى الثورة ومعركتها، وهناك مجلس عسكري يستفيد من هذه المعركة ويستمد وجوده في الحياة السياسية منها. العجيب أن هذه المعادلة استمرت خلال السنوات الأربع الماضية رغم اختلاف المواقع بين الأطراف الأربعة، هل تذكرون معركة الدستور أولاً، أو الانتخابات أولاً، وصرخة الشباب وقتها في اعتصام يوليو الثورة أولاً، هل تذكرون انتخابات 2012 حيث كانت قائمة التحالف الوطني بقيادة الإخوان ضد قائمة الكتلة المصرية بقيادة حزب المصريين الأحرار، بينما كوّن الشباب قائمة الثورة مستمرة. ولكن بذرة الاستقطاب كبرت وترعرعت أكثر، خصوصاً بعد وصول محمد مرسي إلى الحكم، ودخلت البلاد في مرحلة خطيرة وهي وضع بذور العنف، ونذكِّر هنا بجمعة كشف الحساب والإعلان الدستوري والبلاك بلوك وأحداث الاتحادية والمقطم. وأيضاً هنا قامت مجموعة من شباب الثورة بطرح مبادرة لوقف العنف رعاها الأزهر، وأجمع عليها كل الفرقاء السياسيين وكل الأزهر والكنائس المختلفة، ولكن ما لبث أن تنكر الجميع للمبادرة عملياً، فالاستقطاب هو ما يغذّي كل طرف ويحشد له الأنصار، وحتى وصلنا إلى 3 يوليو وانحاز الجيش بوضوح إلى التيار المدني ضد التيار الإسلامي، مما عقّد المشهد أكثر وصعّد وتيرة هذا الاستقطاب أكثر، فمبرر وجود المؤسسة العسكرية هو حماية المواطنين من الإرهاب، وتحت هذا المسمّى كان قتل المتظاهرين واعتقال المعارضين، وكان رد الفعل تجاه مجموعات إسلامية للعنف وبلغ ذروته في أعمال العنف والقتل ضد الجنود في سيناء وتحولت المعركة الاستقطابية الفكرية إلى معركة عقيدة ومعركة صفرية عند كل طرف "إما النصر وإما الشهادة"، ووصل الاستقطاب إلى أبشع صوره، وهو الاستقطاب في الموت "قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار". لقد تحولت بذرة الاستقطاب إلى شجرة خبيثة امتدت جذورها في كل ربوع أرض الوطن، وأصبح اجتثاثها عملاً شاقاً وصعباً، ويحتاج لعزيمة كبيرة وتوحيد للجهود وهو الأمر الذي لن يحدث بين يوم وليلة، ولكنه سيحدث يوماً ما، لأن هناك من يحارب ضد هذا الاستقطاب ويحارب العنف ولا يخاف القمع ويحارب الاستبداد ولا يخاف نتيجة هذه الحرب ولا يتراجع ولا يحيد عن مبادئه ولا يجر لأن يكون أحد طرفي هذا الاستقطاب المقيت والمميت. وكل ما نأمله في هذه المرحلة أن يكون في داخل كل طرف من أطراف الصراع ومن داخل السلطة ومن داخل القوى والجماعات ومن الأحزاب والحركات بعض العقلاء الذين يسعون إلى وقف الماء عن شجرة الاستقطاب الخبيثة وسنساعد هؤلاء وندعمهم ونقف بجوارهم حتى يأتي الوقت لاجتثاث الاستقطاب من مجتمعنا وحتى نصل إلى الحد الأدنى من التوافق والتوحد.
(مصر)