"وحياة اللي راحوا واللي صاروا الحنين"... يرافق هؤلاء المتّشحون بالسواد النشيد الصادح بأصواتهم الجهوريّة وإن خنقتها غصّات وعبرات. "وحياتِك يا أرضي ويا تاريخي الحزين"... ويرشقون النعش الخشبيّ البنيّ بالورد الأبيض. بماذا يُرشَق "المناضل الوفيّ" بغير الورد!
على الأكفّ، يحمل الرفاق والأصدقاء نعشه ويرقصون به. "يا رفيقي اللي استشهد.. يا شعبي اللي تشرّد"... ويرفعونه إلى الأعلى. يرقصون به. دموعهم تختلط بزخّات المطر الذي راح ينهمر بعد ظهر ذلك اليوم الحزين. إنّه الثالث عشر من مارس/ آذار. "رح نرجع نتلاقى.. رح نرجع نتوحّد.. وعد عليّي يا شعبي السجين".
ميشال حدّاد لم يسقط شهيداً. "المناضل الوفيّ" خانه قلبه.. ذلك القلب الكبير الذي لا بدّ من أن يكون قد نبض من جديد - ولو لبرهة - في ذلك النعش الخشبيّ البنيّ، وقد استشعر كلّ ذلك الحبّ. هو حبّ استثنائيّ ذلك الذي حاوطه في وداعه. "المناضل الوفيّ" لم يستشهد، غير أنّه يستحقّ زفّة شهيد. نحن قوم لا نكرّم "أبرارنا" إلّا إذا سقطوا شهداء. نكرّمهم.. نرفع صورهم.. نمنحهم الألقاب. ميشال حدّاد يستحقّ لقبه.. "المناضل الوفيّ". ميشال حدّاد يستحقّ التكريم وإن لم يسقط شهيداً.
واحد وعشرون عاماً مضت. تحت جسر البربير في بيروت، قبل أن تتبدّل معالم المكان ويُهَدّ الجسر الحديديّ المتهالك ويُشقّ نفق بدلاً منه، راح ميشال حدّاد يصوّب بعضاً من هفواتي. في صباح ذلك اليوم، كانت تظاهرة وطنيّة عمّاليّة وشبابيّة تطالب بلقمة العيش وبالحريّات. في ذلك اليوم، على الرغم من كلّ التهيّؤ المسبق، كنت مرتبكة لشدّة حماستي. تحرّكات احتجاجيّة عدّة كانت قد استقطبت اندفاعي قبل ذلك، غير أنّ تلك كانت تظاهرتي الأولى مع الاتحاد العمّالي العام. ما زلت أذكر كيف اغتاظ، إذ ناديت ناجي باسمه. "لا أحد ينادي أحداً باسمه في أوضاع مماثلة!". كان مغتاظاً.. وكان صوته يفضح غضبه ذلك. أمّا عيناه، فكانتا تفضحان خوفه علينا. غاضباً كان ميشال حدّاد، غير أنّ خوفه كان يحرّك بعضاً كثيراً من غضبه ذاك. هي سنوات أربع أو خمس تلك التي تفرّق بيننا، غير أنّه خاف علينا.. خوف أب مسؤول في موقف حرج.
في تلك التظاهرة وفي أخرى كثيرة تلتها وسبقتها، هتفنا مطالبين بحقوق "شعبي السجين". هتفنا مطالبين بلقمة عيش كريمة. هتفنا مطالبين بعدالة اجتماعيّة. هتفنا مطالبين بحركة طالبيّة فاعلة. هتفنا مطالبين بجامعة وطنيّة قويّة. هتفنا مطالبين بوطن.. باستقلال.. بسيادة.. بحريّة.. بمستقبل...
هتفنا كثيراً "وحياتِك يا أرضي ويا تاريخي الحزين"، وأقسمنا "رح نرجع نتلاقى.. رح نرجع نتوحّد.. وعد عليّي يا شعبي السجين".
رفيق الأوهام الكبرى... بخاطرك.