بحثاً عن جنس الفن

07 ابريل 2015
+ الخط -
نمرّ أحياناً أمام منحوتة أو نرتاد معرضاً تستعمل فيه مواد خشنة، وقد "نفاجأ" بأن وراء ذلك فنانة امرأة تمارس فعلها الفني بتصورات جديدة.
فإذا كانت النساء قد ارتدن مجالات مخصصة للرجال، فإن الفن قد حرّر النساء من "هشاشتهن" المفترضة قبل ذلك بكثير، إذ إنهن تملّكن المواد الخشنة التي تتطلب جهداً في التطويع لممارسة تعبيرهن الفني بكامل الحرية.
الفن مجال تجريبي لكسر الفواصل بين الجنسين حتى وهو يركز على "الخصوصية" النسوية. مجال مفتوح يمكِّن الأنثى من التعبير عن جوانبها الذكورية (حسب التحليل النفسي) وعن قواها الذاتية، كما يمكّن الرجل من تفجير طاقته النسوية الكامنة فيه.

تطورت في مجال النظريات الأدبية مقولة الكتابة النسوية. بل إن بعض المنظّرين من النسويين ساروا إلى حد الزعم بأن الكتابة امرأة. صحيح أن تاريخ الإنسان يؤكد أن المرأة هي التي اكتشفت الحرث والزراعة، وأن العلاقة الأكيدة بين الحرث والكتابة أمر واضح قد يكون في أصل المجاز الذي يتحدث عن "صفحة الأرض"، بيد أن اللغة لها طابع شفهي تليد وطابع كتابي أثري جاء في ما بعد ليؤسس لعلاقات تواصلية جديدة.
تتأسس أنثوية الكتابة لدى الكاتبات، على مؤشرات أسلوبية وموضوعاتية لا يمكن التغاضي عنها. بيد أن هذه المؤشرات لا يمكن أن تتحول إلى ثوابت. ولا أدل على ذلك من أن مدام بوفاري، لو أنها وقّعت باسم أنثوي لكانت نموذجا لهذه الكتابة. مع ذلك حين نقرأ لكاتبات عربيات كأحلام مستغانمي نجد أنفسنا أمام كتابة أنثوية بامتياز، غير أنها كتابة لها صرامة تكاد تكون ذكورية. لكن بالمقابل هل يمكننا الحديث عن كتابة ذكورية لدى إبراهيم الفقيه أو عبد الرحمن منيف؟

بالرغم من أن كتابات ليلى بعلبكي وغادة السمان وهدى بركات، وسحر خليفة لها تلك السمة الأسلوبية والموضوعاتية، لكن السمات نفسها يمكن أن نتقصاها في كتابات شعراء وروائيين ذكور. ما يجعل من الحدود الفاصلة بين الذكوري والأنوثي في الكتابة أمرا ملتبسا وقابلاً للتمدّد. ولا أدل على ذلك من أن الجزائري محمد مول السهول، العسكري في الجيش الجزائري، قد نشر، بدءً من 1990، روايات عديدة لاقت شهرة كبرى باللغة الفرنسية باسم "ياسمينة خضرا"، بعد أن اضطر لاختيار اسمي زوجته خوفا من المتابعة القضائية.

إذا كان حضور الذات في الكتابة يمكّن منذ الوهلة الأولى من التعرف إلى المؤشر النسوي في الكتابة، فإن العديد من الكتابات التي تنتجها نساء، يصعب الوقوف فيها على بعض تلك السمات، وتغيب فيها الحدود. لذا فإن العديد من الناقدات في العالم العربي يسعيْن إلى التخصص في الكتابة النسوية، لتوكيد أنثويتهن، بل لخلق علاقة مرآوية تتطلب الكثير من السؤال والتحليل.
لكن، لماذا يصعب في المجال الفني التشكيلي الحديث عن هذا الموضوع؟ أين نعثر في لوحة فنية أو في منشأة أو منجزة على هذه السمات التمييزية؟ كيف يمكننا التعرف إلى الأنثوي في عمل فني؟ ثم كيف نميز التعبير الذكوري من مقابله الأنثوي؟

حين ننظر إلى الأعمال التعبيرية لمروان أو سبهان آدم أو سيروان باران بتعبيريتها الصارخة ووحشية ملامحها ذات الطابع البيكوني، ونتعرف إلى أعمال الفنانة العربية المقيمة ببلجيكا أمينة رزقي، نجد أنفسنا أمام عالم تصبح فيه البشاعة مجالا للكشف عن عورة الكائنات. لا تكتفي هذه الفنانة بتشويه ملامح الوجه وخلخلة المقاييس الجمالية المعتادة للجسد وإنما تحللها بشكل يغدو معها الرمادي بتلاوينه المتراكبة كما لو أنه محلول يكاد يتوارى فيه الجسد ليغدو هلاميا...
صحيح أن الكثير من الأعمال النسوية تحيل على الزخرفي، وتركز على وضعية النساء كأعمال المصرية جاذبية سري، غير أن الكثير من الفنانين قبلها في مصر وفي غيرها رصدوا معاناة النساء كلؤي كيالي وبهجوري وغيرهما. وهو الأمر الذي يجعل هذا الموضوع في مجال الفن موضوعا مشتركا بشكل أشد وضوحا مما هو في الأعمال الأدبية.
هل يمكن انطلاقا من ذلك أن نتمادى في البحث عن "جنس" العمل الفني؟


من المعروف أن الأعمال الفنية والأدبية كثيرا ما تكشف عن مستور حياة الفنان، وخاصة عن منازعه الجنسية. فأعمال لوركا أبانت عن نزوعه الجنسي المثلي كما أبانت مؤلفات بروست عن هذا النزوع. وقد أبرز رولان بارث كيف أن رواية "زيادة" لبيير لوتي، الكاتب الرحالة، هي تقنيع لمثلية المؤلف وعلاقته "الشاذة" مع صديقه صامويل، ثم مع أحمد. كما أن مراسلات الجنرال ليوطي الذي سهر على إقامة الحماية الاستعمارية بالمغرب قد كشفت عن ميوله تلك.

لكن بما أن علوم النفس والتحليل النفساني ليست متطورة لدينا بما يكفي كي تتناول تاريخ الفن العربي وكي تعيد النظر في ثنائية الذكوري والأنوثي في الإبداع الفني، فإننا نكتفي في أحسن الأحوال بتحليل العلامات والرموز (التحليل السيميائي البصري) لمقاربة "جنس" العمل الفني واستكناه منازعه و"طبيعته". ثمة طرائق مستجدة للتعبير عن الذات في الفن. حين تأخذ العديد من الفنانات العربيات من أجسادهن وكيانهن وحضورهن في التشكيل والفوتوغرافيا والمنشآت وغيرها، تغدو الذات المظهرية موضوعاً مرآوياً لمسرحة العمل الفني ومَشْهدة مكوناته "الجنسية". لكن هنا أيضاً تكشف الذات عن التباسها: كما في أعمال الفنانة العربية فاطمة مزموز، المقيمة بباريس، التي تحول جسدها وهي حُبلى إلى مجال للحديث عن الأم العظيمة (سوبر أم). إنها الأم الفحلة التي يغدو بطنها النافر أشبه برمز لفحولة جديدة، يصوغها الجسد، تعبيراً عن التحولات التي يحضنها الفن، والتي تخلخل ثنائية الذكورة والأنوثة في المتخيل الجمالي.
المساهمون