أثناء تعاملها مع أي حراك مناهض لممارساتها، تكاد تكون حجج كافة السلطات واحدة. فشيطنة المتظاهرين وإظهارهم على أنهم مجرمون أو مشاغبون، وكأنهم أصحاب "جواهر" سيئة بطبيعتها لا يصدر عنها إلا الشر، دون النظر في دوافع أفعالهم وأسبابها واتخاذ الاجراءات الضرورية لتلافيها، هي الطريقة المثلى عندهم لتجاوزها.
تأتي أحداث بالتيمور تتويجاً لسلسلة طويلة من الأحداث التي قتلت، وتقتل فيها الشرطة الأميركية، مواطنين من الأفارقة الأميركيين. تتكرر هذه الممارسات في الأشهر الأخيرة. لنتذكر مقتل الشاب الأعزل مايكل براون في سيارة الشرطة في فيرغسن، وإيريك غارنر الذي مات مخنوقاً في نيويورك كما أظهرت تسجيلات الفيديو، وصارت عبارته "لا أستطيع التنفس" شعاراً لمتعاطفين كثر معه، وكذلك "والتر سكوت" في كارولاينا الجنوبية، وصولاً إلى الشاب "فريدي غراي" الذي مات في الحجز في ظروف غامضة في مدينة بالتيمور.
بدأت الاحتجاجات تحت عنوان "حيوات السود، مهمة"(Black Lives Matter).انتشرت الاحتجاجات في مدن وولايات مختلفة من البلاد، من نيويورك حتى كاليفورنيا، كان شعار غالبيتها "لا عدالة، لا سلم"، في تأكيد لمطلبهم بالقصاص العادل من أفراد الشرطة الذين ارتكبوا جرائم قتل، أفظع من "أخطاء" ضحاياهم التي لا تستحق أن يفقدوا حياتهم من أجلها، خصوصاً بعدما أظهرت تسجيلات الفيديو، أن الضحايا كانوا عزّلاً، أو قاوموا الاعتقال بشكل سلمي في رد فعل طبيعي على رفض اعتقالهم.
ما يزال الأفارقة الأميركيون يعيشون في تجمعات وأحياء تسود أغلبها الجريمة والمخدرات والبطالة، ما يمكّن من خلق سرديات ترتكز أساساً على وجود "طبيعة معينة" أو "فطرة" للبشر، ضمن جو من الفهم الهوياتي السائد في أميركا والذي توليه السلطات ومؤسساتٌ أكاديمية كثيرة أهمية على صعيد "فهم" البشر المتنوعين ثقافياً وسوسيولوجياً كمصدر يكاد يكون وحيداً للأفعال، بعيداً عن تعقيدات الواقع والظروف والشروط التي يحيا فيها الأفراد.
هذه التصورات تنتشر في مجتمعات البيض، والآسيويين، والأفارقة أنفسهم، وحتى نحن العرب ما زال كثير منّا يستخدم، بلا مسؤولية، لفظة "عبيد" وقت الحديث عنهم. كل ذلك يجعل الأفارقة الأميركيين (لأنهم فقط كذلك) موضع شبهة دائمة لأجهزة الشرطة، ولتصوّرات المجتمعات الأخرى عنهم.
تحدث عمليات التخريب والنهب مع أي حالة من الفوضى، والتي تستغلها السلطات كذريعة لإخماد الحراك وتغييب المطالب المحقة، لكن ما وراءها هو أن المتظاهرين يريدون العدالة. ضالتهم هي أن تتم محاسبة السلطات التي يفترض بها أن تكون على مسافة واحدة من المجتمع دون أن تأخذ بعين الاعتبار تصورات هوياتية عن الناس.
وبهذا، تبدو بالتيمور استمراراً لنضال السود في أميركا الذي بدأ بانتفاضات على "السادة" والنخاسين وأصحاب مزارع القطن وقصب السكر في القرن التاسع عشر، واستمر حتى انتصارات مارتن لوثر كينغ في ستينيات القرن الماضي.
لوثر الذي يستعاد كلامه اليوم: "ليس كافياً بالنسبة لي أن أقف أمامكم وأشجب الشغب. سأكون أخلاقياً غير مسؤول إذا فعلت هذا دون أن أشجب في نفس الوقت، الظروف التي لا تطاق التي يعيشها مجتمعنا. هذه الظروف التي تجعل الأفراد يشعرون بعدم وجود خيارات سوى المعارضة العنيفة، كي يجلبوا الانتباه لقضيتهم. عليّ القول إن الشغب لغة غير المسموعين".
قضية الأفارقة الأميركيين، بهذا المعنى، هي قضية جميع الناس في العالم الذين يتم اختزالهم بتعريفات جاهزة أساسها تصوّرات وسرديات آن لها أن تزول. عسى أن يتمكن بعض الأميركيين السود - وهم يتذكرون أن أسماء عائلاتهم هي اسم "المالك القديم" أو تاجر العبيد - من الغفران والنسيان.
* شاعر سوري مقيم في نيويورك