يترصّد الكاتب خوان خوسيه طييث في كتابه "باكو دي لوثيا، ابن البرتغالية" تفاصيل حياة المؤلف الموسيقي وعازف الغيتار، فرانسيسكو سانشيث غوميث المعروف باسمه الفني باكو دي لوثيا (1974 - 2014)، ابن منطقة الأندلس في إسبانيا، وفاء لصداقة امتدت لأكثر من 35 سنة تمثل جزءاً من مشهد ثقافي إسباني يضيئه المؤلف من خلال سيرة أحد أبرز وجوهه الفنية.
يذكر الكتاب تقديم عازف الغيتار لنفسه في حديث صحافي يعود إلى سنة 1976، يقول: "أنا باكو، ابن لوثيا. في الأندلس نثبت هويتنا بأسماء أمهاتنا، لأن الشارع مليء بمن يحملون نفس الاسم واللقب الرسمي. أنا كانوا يسمّونني باكيتو ابن لوثيا أو باكيتو ابن البرتغالية"، كون أمه تنحدر من منطقة منطقة الغاربي في البرتغال.
في ذلك اللقاء، كان باكو يتحدث معانقاً غيتارته، يلفّه دخان كثيف. هذه العبارة بالتحديد "ابن البرتغالية" هي التي سيجعلها طييث عنواناً للسيرة التي كتبها عن صديقه باكو، كون مرحلة الطفولة تمثل أحد أركان العمل، وكون باكو اختار تضمين اسم والدته في الاسم الذي اشتهر به، ما يشير لعمق العلاقة بينهما.
السيرة تتناول حياة الموسيقي بدءاً من طفولته، والصورة الحاسمة التي اتخذها أشخاص أساسيون في حياته مثل أبيه أنطونيو وإخوته. بالنسبة لوالد الفنان فهو رجل صارم. وإذا كان باكو من خلال اختيار اسمه الفني قد مال باتجاه والدته، إلا أنه لم تصدر عنه أية عبارة لوم أو عتاب لسلوك والده تجاهه.
بعد ذلك تتجه أنظار الكتاب نحو جولات العازف الإسباني الأولى مع الغيتارة، وبداية تبلور حساسيته الموسيقية واختياراته ضمن فن الفلامنكو الذي كان يحب اختلاطه بالموسيقى الكلاسيكية كما في رائعة الفن الإسباني "كونشيرتو أرانخويث" لـ خواكين رودريغو (1901 - 1999) والتي أصبح باكو أبرع عازفيها، إضافة إلى أعمال مانويل دي فايا وآخرين.
تعرّج السيرة أيضاً على لقائه بـ كَمَرُّونْ دِي لَا إيسْلَا أحد أشهر الأصوات الغجرية في غناء الفلامنكو، كمدخل يوصلنا إلى شبكة علاقاته مع العديد من الموسيقيين والمغنين المجايلين له، مروراً بمواقفه السياسية في فترات حساسة من تاريخ إسبانيا، أهمها على الإطلاق فترة الانتقال الديموقراطي منتصف السبعينيات.
ضمن هذه التحوّلات التي عرفتها إسبانيا، والتي تمثل وفاة فرانكو نقطتها المفصلية، كان الفلامنكو يعيش تحوّلاته، إذ جرى توظيفه إيديولوجياً وسياسياً، فاستفاد من دخول "شحنات كهربائية" إلى عوالمه وقواعده الفنية ضمن أجواء الغليان التي عرفتها المرحلة. حتى أن باكو تسرّبت إليه هذه النزعة السياسية، إذ وصف باكو فنه في استجواب صحفي مع الروائية روسا مونطيرو بأنه يقدّم "فلامنكو تقدّميا".
هذا التصريح أثار عليه غضب اليمين والعسكريين، وسرعان ما أدخله في سجالات خلقت له العديد من المشاكل التي بلغت ذروتها في لقاء تلفزيوني مع خيسوس كينطيرو. يسأله هذا الأخير: "ما هو الأكثر أهمية لحظة عزف الغيتارة، اليمين أم اليسار؟" (ظاهرياً يقصد اليد اليمنى أم اليسرى)، أجاب باكو: "اليسار هو الذي يخلق الموسيقى، هو الأكثر إبداعية"، ثم أضاف "اليسار هو الأكثر ذكاء، وبعدها اليمين هو الذي يسهر على التنفيذ". (كلمة اليد مذكرة في اللغة الإسبانية).
بعد ذلك بأشهر قليلة، وقبل تمرّد المريمة في كانون الأول/ ديسمبر 1976، وفي شارع غران بيا في مدريد، وكان يسمى حينئذ شارع خوسيه أنطونيو، تعرّض باكو لاعتداء. قال له أحد الثمانية الذين أحاطوا به في ساعة متأخرة بينما كان يهم بالدخول إلى سينما "أبينيدا" لمشاهدة فيلم في فترة العرض الأخيرة: "إذن أنت هو باكيتو"، يقول آخر "أجل، أجل، ذاك الذي ظهر في التلفزيون، وأساء القول".
بعد ذلك تسارعت الضربات في جسده؛ "أأنت من يقول أن اليمين يُنفّذ؟ خذ إذن هذه، يا ابن السافلة، لن تعود إلى العزف مرة ثانية بعد الآن". نُسب هذا الاعتداء في الصحافة إلى مجهولين ينتمون إلى جماعات يمينية متطرفة. صرّح العازف بعد ذلك قائلاً: "لا أحد تدخّل حينها لرد المعتدين، والواقع أن هؤلاء توقفوا عن الضرب حينما شعروا بالسأم".
عن فلسفة باكو بخصوص الالتزام السياسي يذكر المؤلف حواراً له سنة 1982: "أنا لا أريد انتساباً سياسياً، لكني أمتلك وعياً اجتماعياً يُمْلِي عَلَيَّ أنه يجب أن يكون ثمة مساواة بكل الأشكال ولكل الناس. العدل هو الكلمة الأساس، لكن لا يعجبني أن أصنّف تحت يافطة اشتراكي".
رغم ذلك، سيجد باكو نفسه في كل مرة محشوراً في انتسابات سياسية وإيديولوجية. ففي 1993، وقع على بيان مساندة للوزير فيليبي غونثاليث وجرى نشر ذلك على العموم، ما جعله يوضّح موقفه مجدداً، ثم انعكس ذلك في بروز شخصية أكثر حذراً واحتراساً.
في 1994، سألته صحافية عما تمثله منطقة الأندلس بالنسبة له؛ أوضح الأمر قائلاً: "هي أرض كانت حافزاً للإحساس بالزهو والكبرياء والابتهاج". بعد ذلك، يوضح: "انظري، إن شعباً يستفيق كل صباح وهو يفكر كيف يمزح مع جاره أو ما يمكنه أن يفعله لكي يبتسم فهو شعب محظوظ. مواجهة الحياة بالبهجة والفرح لا تعني أن تكون قنوعاً ولا خانعاً".
حرص المؤلف أن يتحاشى كل انبهار بالمحطات التي قطعها باكو في مشواره، وهو يرى أن ذلك ينسجم مع رؤية عازف الغيتار إلى تجربته في الفن. يقول "كانت تبدو له الشهرة مثل غيمة مفزعة ومضايقة".
من هنا، فإن الصورة التي تصلنا هي صورة إنسان بسيط لا يهتم إلا بموسيقاه، وهو ما تؤكده عبارة قالها باكو: "أعرف جيداً أين أنا، ومن أكون، لا يؤثر في أي شيء على الإطلاق، لا التزلفات ولا التصفيقات ولا الجمهور الواقف... ثمة لحظات تعتقد فيها أنك شخصية مهمة ما، لكن بعد سكرة المجد تنظر إلى ذاتك في المرآة فترى نملة. لم أحس يوما بنوبة زهو وخيلاء لأن الحياة عاملتني أفضل مما كنت أنتظر".
في هذه السيرة، جرى التركيز على لقاء بين باكو دي لوثيا وكمرون دي لا إيسلا في فصل بعنوان "أورانوس وزحل"، كلقاء يمثل منعطفاً في سيرة الرجلين: المغني الذي رغب في أن يصبح عازف غيتار وعازف الغيتار الذي رغب في أن يصبح مغنياً.
يقدمهما المؤلف على مدى السنوات التي شهدت صداقتهما بدءاً من سفرهما المشترك إلى العاصمة، "في الستينيات، التي كان فيها الذهاب إلى مدريد مثل السفر إلى الأميركيتين" وصولاً إلى حيثيات القطيعة بينهما.
إن رصد هذه العلاقة يصب في أحد توجهات الكتاب، حيث يقدم لنا صورة عن إسبانيا في مخاضها الكبير أثناء هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها المعاصر، مرحلة انتقالها من دكتاتورية عسكرية إلى مرحلة الديموقراطية والانفتاح، ودور مثقفيها في ترسيخ قيم الديموقراطية والتعدّد والاختلاف.
اقرأ أيضاً: عالم مخبّأ في لونغا رياض