باسل شحادة شهيد الحلم النبيل

03 يونيو 2016

كان باسل شهيد حلمه النبيل بالحرية

+ الخط -
ندرك، أحياناً، ونحن ننظر إلى صور الراحلين أنهم ماتوا حقاً. غادروا الحياة. هكذا تقول عيونهم في الصورة أمامنا.. ويحدث، أحياناً، أن تهمس لنا صور بعض من فقدنا همساً، تصحبه ضحكاتٌ ناعمةٌ تنسلّ إلى قلوبنا، فنحسّ بأنهم لا يزالون بيننا، وبأن الموت لعبةٌ ساذجةٌ، فترانا لا نعترف برحيلهم. ويحدث كثيراً أن يحاول الذين سيموتون إفهامنا بأن رحيلهم قد أزف، ولا ندرك ذلك إلاّ بعد موتهم. تراهم ينظرون نحونا تلك النظرة التي تتركنا حائرين في تفسير المعنى، ولا ندركه إلاّ بعد أن يكتسح موتهم قلوبنا، ويصير للموت قاموسُه القاسي في التأويل الذي يترك شجناً لا يزول. وهناك من أخذهم الموت من الحياة، لكنه عجز تماماً عن اقتلاعهم من قلوبنا، وبقيت صورتهم حيّةً، وسيرتهم ضوءاً يشع، كلما أراد الأحياء تذكّر معاني الأسئلة الطموحة للحياة في أبهى وأنبل ما يحلم به الإنسان.
مرّت، قبل أيام، الذكرى الرابعة لمقتل باسل شحادة، المخرج السينمائي السوري، عاشق سورية وعاشق الحياة في صورتها النبيلة. في كل ذكرى منذ مقتله في حمص في مايو/ أيار 2012، وهو يصوّر الثورة السورية ويوثقها بشغف الإنسان الحر، أراني أسأل: ما هو سرّ الإشعاع الذي يحيط به، ليجعلنا نعيش شعورَ فقْدِهِ بالقوة نفسها التي نعيش حضوره بيننا؟ كان لباسل شحادة أثرٌ لا يزول في حياتي الشخصية، فقد دفعه اهتمامه بالسينما إلى الإتصال بي من دمشق عام 2010، طالباً عرض فيلمي "كما قال الشاعر" في المقهى الثقافي "شام محل" الذي يديره، ومجموعة من الشباب في دمشق العتيقة، وكانت مؤسسة السينما السورية قد رفضت عرضه، اعتراضاً على وجود الشاعر الإسرائيلي، يتسحاق لاؤور، قارئاً شعراً لمحمود درويش بالعبرية. قلت لباسل إن الفيلم منع من العرض في دمشق، فأجابني بما أزال كل حجاب أمام محبتي له، إذ قال إننا نعرض أساساً ما هو ممنوع من العرض من السلطات.
التقيته في بيروت بعد أيام، وتحدثنا، وأعطيته نسخة من الفيلم، وأعطاني طاقةً لمحبته لن تنضب، ولن يخدشها غيابه الذي سيكون بعد عامين بالضبط من ذلك اللقاء. قلت، في كتابة عنه، لولاه لما تعرّفت الى المرأة التي ستصير زوجتي، بعد عام على لقائي به، وكأن تاريخ إعلان زواجنا بمحض المصادفة في تاريخ ذلك اللقاء في مايو/ أيار الذي سيكون تاريخ مقتله في حمص، بعد عام من زواجنا.
كانت المصادفة التي اقتحمت قدرنا بمزيج من الحب والفرح والأسى والفقد جعلت باسل شحادة بعضاً مني، ومن حياتي، كأنه ابني أو أخي أو بعض دمي. كان باسل حالةً مختلفة في المشهد السوري، فهذا الشاب الذي شارك في الثورة السلمية منذ البدء كان عاشقاً حقيقياً لبلاده، وهو الذي ولد ونشأ في ظل الطغيان. كان مثقفاً وفناناً. قال إنه يحب سورية، ويحبها حرّة، فجال في بلاده على دراجةٍ هوائيةٍ، يتعرف إلى تفاصيلها، وكأنه في حالة عشق للحبيبة ووداعها، وسافر بمنحةٍ دراسيةٍ إلى الولايات المتحدة الأميركية، ليدرس السينما التي أحبها، لكنه مع تصاعد الثورة في سورية، ترك دراسته، وعاد ليكتب بالكاميرا التاريخ الجديد لبلاده الذي كان قد بدأ في ربيع عام 2011 .
لم يشبهه مثقفون وفنانون سوريين كثيرون، آثروا الرحيل عن البلاد لأسباب كثيرة، عندما تصاعدت دموية النظام في مواجهة الشعب المنتفض. عاد باسل شحادة إلى بلاده ليموت بعيداً عن دمشق، مكان ولادته، والتي أحبها، ويدفن في حمص مكان موته. لم يكن باسل شحادة شهيد الطائفة السينمائية، وهي صفة أطلقها السوريون تهرباً من ذكر طائفته المسيحية، أو إنكاراً للصفات الطائفية التي عصفت بسورية في مآلات الثورة المفجعة. كان باسل شحادة شهيد سورية الحرة، وشهيد حلمه النبيل بالحرية، وهذا يكفي.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.