بائعةُ العلكة.. الطفلة السوريّة التي خشيت "كابوس" الاعتقال

13 سبتمبر 2014
يسأل أصدقاء فرح عنها منذ أن اختفت (حسين بيضون)
+ الخط -

قبلَ أن تُباشر عملها، تركضُ فرح، الطفلة السورية وابنة السنوات الست التي نزحت إلى لبنان، من رصيف إلى آخر لتُلقي التحية على السيارات المارة، التي اعتاد أصحابها سماع ضحكات "بائعة العلكة" المشاغبة منذ الصباح الباكر. يحبّون عباراتها رغم كلاسيكية بعضها. "صباح الخير يا حلو ويا حلوة". تسألهم عن أحوالهم، قبل أن تعرض عليهم شراء العلكة. العلبة بـ 500 ليرة لبنانية، تقول. بالطبع لن تقدمها مجاناً حتى للمقرّبين منها. تُضيف: "حبيبي على راسي وعيني بس الشغل شغل".

تحمل فرح صندوقاً صغيراً تضع فيه علب العلكة. تنتظرُ ظهور ضوء إشارة المرور الأحمر لتبدأ العمل. تتنقل بين السيارات المتوقفة وتعرض بضاعتها. تنتقد عدم تقيّد الكثير من سيارات الأجرة بشارات المرور. تقول إنها تخشاهم فتحرص على تأمين طريقها. تنتظرها شقيقتها الكبرى على رصيف الشارع المقابل وتراقب تحركاتها. وحين تتحوّل الشارة إلى اللون الأخضر، تهرعُ لإبعادها عن خط السير حفاظاً على سلامتها.

تعود فرح إلى الرصيف وتضع يديها الصغيرتين على خديها، وتمسح العرق الذي يغطي وجهها المبتسم دائماً، رغم التعب. لهذه الفتاة طريقتها في بيع العلكة. قبل أن تعرض على الناس شراء ما تحمله، تبدأ بمدحهم بعبارات جميلة، فيقابلونها بابتسامة وشراء العلكة. تقول زينة وهي إحدى زبائنها: "تُدرك فرح أن ابتسامتها جميلة، فتستعين بها".

تقولُ بائعة العلكة إنها "تركت مقاعد الدراسة باكراً. قضت الحرب في سورية على طموحها بأن تصبح معلمة بسبب حبّها الكبير لمدرساتها". كانت تعشق الرسم. تعرب عن اشتياقها لأصدقائها الذين فرقتها المعارك عنهم.


نزحت عائلة فرح قبيل معركة القصير. جاءت إلى لبنان برفقة والديها. كان نزوحاً جماعياً شمل عائلات كثيرة. تركوا جميعهم منازلهم المدمرة وأحلامهم. اضطرت وأهلها إلى النوم في العراء لأكثر من 20 يوما بسبب عدم إيجاد مأوى. كادت أن تتعرّض للضرب مرتين أثناء عملها في الشارع.

تروي تفاصيل الحادثة الأولى بصوت خافت خشية أن يسمعها أحد المارة. تقول: "توجهت إلى سيارة مركونة على جانب الطريق، وعرضت علب العلكة على الشاب الذي كان يضرب صديقته علّ ذلك يُهدّئ من روعه. فما كان منه إلا أن قابلني بعبارات قاسية قائلاً: اذهبي يا ابنة الشارع يا كاذبة. أخذ العلكة من يدي بالقوة ورمى بها من خارج النافذة، وفتح باب السيارة وكاد يضربني. خفت وهربت إلى زاوية الشارع، المكان الذي اعتدت الجلوس فيه وانتظار والدتي لتعيدني إلى غرفتنا الصغيرة التي نقطن فيها".

أما الثانية، فكانت أثناء دخولها أحد المطاعم في بيروت لطلب شطيرة بعدما غلبها الجوع. تتابع: "أشتاق إلى شطيرة اللبنة والزيتون التي كانت تعطيني إياها والدتي بعد عودتي من المدرسة. فآخذها وأخرج إلى ساحة القرية لأتقاسمها مع رفاق الحي وألعب وإياهم إلى أن تنادي عليّ أمي لأعود وأغتسل وأجلس على طبلية الطعام مع أخوتي لتناول الغداء".

لا تأبه "المشاغبة المهضومة" كما يُسميها أبناء الحي الذي تعمل فيه للظروف القاسية التي تعيشها. فلا شيء يوازي بشاعة الحرب السورية التي كوّنت لديها هواجس عدة. تقول إن "الكابوس الأكبر التي تدعو الله أن يبعده عنها هو خسارة عائلتها، وخصوصاً أن شقيقها الأصغر توفي جراء سقوط صاروخ عليه فلم يستطع إكمال مباراة كرة القدم".

تضيف: "أُفضّل الموت على أن أفقدهم". حياتها باتت ممزوجة بالخوف والبكاء والجوع. تسأل: "ألا يحقّ لنا أن نعيش؟ يقولون لي إن رئيسنا بشار الأسد هو من دمر بيوتنا وقضى على أحلامنا وأخذ روح أخي الصغير". تعلق باكية: "لا يحق له أخذ أرواحنا".


تقول فرح إن نزوحها إلى لبنان، وعملها على الطرقات من دون أن يكون بحوزتها أوراق ثبوتية تُعرّف عنها، يفقدها الشعور بالأمان. تتسارع دقات قلبها بمجرد رؤية سيارات الأمن أو رجال الشرطة. فتختبئ خلف السيارات المركونة كي لا يلقى القبض عليها وتودع السجن". تضيف: "أعلم أن عملي لا يحبه أحد. لكنني لا أشحذ المال بل أبيع العلكة كي أعيل والديّ".

لكن فرح اختفت. انتظرها العم أبو محمد ليعطيها الطعام كالمعتاد لكنها لم تأت. يقول رجل سوري الجنسية يبيع علب المحارم على رصيف الشارع حيث كانت تعمل: "اعتقلت الشرطة كل من كان يبيع السلع أو يتسول المال على الطريق، حتى فرح". تحقّق "كابوسها". اعتقلها رجال الشرطة. ومنذ ذلك الوقت، صار أصدقاؤها يسألون عن أحوالها، من دون أن يسمعوا ما يطمئنهم. يعلّق أحد السكان: "ذهبت مشاغبة الحي ولن تعود. سنشتاق إليها".
دلالات
المساهمون