يتعرض تنظيم "هيئة تحرير الشام" الذي تشكل "جبهة فتح الشام" (النصرة سابقاً) عموده الفقري، والذي يمثل القوة الرئيسية في محافظة إدلب شمالي سورية، إلى مزيد من الضغوط الداخلية والخارجية، وسط استحقاقات وشيكة أمام المحافظة تدفع باتجاه تفكيك هذا الفصيل أو شن حرب عليه، وعلى المحافظة، مدعومة من قوى إقليمية ودولية. وتتسارع التطورات داخل "الهيئة" في محاولة لتلافي "الخيار الأسوأ" بالتزامن مع انعقاد محادثات أستانة التي يحتل مصير إدلب صدارة أعمالها، في ظل طروحات متباينة تتراوح بين حل "هيئة تحرير الشام" نفسها وتسليم المدينة لإدارة مدنية، أو شن عملية عسكرية عليها تشارك فيها فصائل محلية، بغطاء جوي خارجي.
وفي إطار هذا المخاض الذي تشهده "هيئة تحرير الشام"، أعلن أحد أبرز التشكيلات العسكرية في "الهيئة"، وهو "جيش الأحرار" بقيادة أبو صالح طحان، انفصاله عنها بشكل كامل، بعد الاتفاق مع قياداتها. وتأتي هذه الخطوة بعد أيام من استقالة الشرعيين في "الهيئة"، عبد الله المحيسني، ومصلح العلياني، على خلفية التسريبات الصوتية التي انتشرت أخيراً لقادة في "الهيئة"، وجهوا فيها إهانات لشرعيي الهيئة، واصفين إياهم بـ"المرقعين".
وتشكل "جيش الأحرار" من ألوية وكتائب كانت منضوية تحت "حركة أحرار الشام" في 10 ديسمبر/كانون الأول الماضي، تحت قيادة أبو جابر الشيخ (يتولى حالياً منصب القائد العام لـ"هيئة تحرير الشام")، قبل أن يعلن في 22 يناير/كانون الثاني العودة لصفوف "أحرار الشام"، ثم انتقال التشكيل بقياداته لصفوف "هيئة تحرير الشام". ويشكل "جيش الأحرار" ثاني قوة عسكرية في "تحرير الشام"، بعد "جبهة فتح الشام". ويقدر عدد أفراده ببضعة آلاف، ويضم عدداً من الفصائل والكتائب أبرزها "لواء التمكين"، المهيمن على مدينة بنش ومحيطها في ريف إدلب، إضافة إلى لواء "أحفاد علي"، ولواء "الحسين"، ولواء "أجناد الشام". وبحسب مصادر مطلعة، لم يشارك "جيش الأحرار" في الهجوم الذي قامت به أخيراً "الهيئة" على حركة "أحرار الشام"، إذ عارض قائده العسكري أبو صالح طحان، هذا الهجوم.
وكانت خمسة فصائل مقاتلة في الشمال السوري قد شكّلت في 28 يناير/كانون الثاني 2017، "هيئة تحرير الشام"، أبرزها "جبهة فتح الشام" و"حركة نور الدين زنكي"، إضافةً إلى "جيش الأحرار". وكانت حركة "الزنكي" أعلنت انشقاقها عن "الهيئة" أيضاً، على خلفية الهجوم على حركة "أحرار الشام"، وسط توتر بين "الهيئة" و"الزنكي"، لا يزال يتأجج بين الحين والآخر.
وفي إطار هذا التوتر الذي تعيشه "هيئة تحرير الشام"، قتل الشرعي السعودي في "الهيئة"، أبو محمد الجزراوي، برصاص مجهولين في مدينة سراقب بريف إدلب الجنوبي الشرقي. وذكرت مصادر إعلامية في المدينة أنه شغل منصب قيادي عسكري في فصيل "جند الأقصى" الذي تم حلّه أخيراً في "جبهة فتح الشام". وبحسب ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن سلسلة من التصفيات في "الهيئة" تطاول قياديين سعوديين، ويعتقد أنه يقف خلفها الفريق المصري-الأردني في "الهيئة".
وقالت مصادر مطلعة في محافظة إدلب إن بعض الفصائل المنضوية تحت راية "هيئة تحرير الشام"، تلقت إشارات من الجانب التركي لتحييد نفسها والابتعاد عن "الهيئة" تحسباً للاستحقاقات المقبلة، وسط تسريبات إعلامية عن قرب شن عملية عسكرية "إيرانية تركية روسية" مشتركة تستهدف "هيئة تحرير الشام" في إدلب، وذلك قبل ضم المحافظة لمناطق "خفض التصعيد" بشكل فعلي. وأعرب بعضهم عن اعتقاده بأن ما يحصل داخل "الهيئة" حالياً، في إدلب، من انشقاقات وتصفيات، ربما يكون مدروساً من ضمن مخطط لإضعاف التنظيم وضربه من الداخل بغية إضعاف قوته العسكرية وإرغامه إما على حل نفسه أو تقسيمه إلى مجموعات صغيرة مستقلة يسهل التحكم فيها، أو مندمجة في فصائل معتدلة، خصوصاً حركة "أحرار الشام".
وذكرت بعض المصادر أن "الهيئة" تعيش انقساماً بين تيار يريد إنهاء العزلة الدولية، كان يقوده الشرعي المستقيل، عبد الله المحيسني، والشرعي العام أبو الحارث المصري، وتيار آخر يريد قتال تركيا والفصائل التي يدعمها هذا البلد، ويقوده القائد العسكري العام، أبو محمد الجولاني، والشرعي عبد الرحمن عطون (أبو عبد الله الشامي)، وقائد قطاع حماة أبو يوسف حلفايا، إلى جانب الشرعيين المصريين الثلاثة، أبو الفتح الفرغلي، وأبو اليقظان المصري، وأبو شعيب المصري.
وتوقع مراقبون ألا تتوقف تداعيات هذه التسريبات داخل "الهيئة" في الأيام المقبلة، خاصةً مع ما كشفته عن إصرار مسبق على قتال حركة "أحرار الشام" وافتعال الحجج لذلك، واستخدام الشرعيين للتغطية على هذه الخطوة. وكانت حركة الانشقاقات داخل جسم "الهيئة" بدأت مع اتضاح "البغي" الذي مارسته على حركة "أحرار الشام"، وكان آخرها انشقاق نحو مائة عنصر من "هيئة تحرير الشام" بسلاحهم إلى مناطق سيطرة "حركة أحرار الشام" في جبل شحشبو بريف حماة الغربي.
ورأى المحلل السياسي، شادي عبدالله، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن القتال بين "الهيئة" وحركة "أحرار الشام"، وما كشفته التسريبات الأخيرة من نيات مبيّتة لدى بعض قادة "الهيئة" لدحر "أحرار الشام"، فضلاً عن الضغوط الخارجية التي تلوّح بضربة عسكرية ضد "الهيئة" ومحافظة إدلب، كلها عوامل جعلت الكثير من المنتسبين إلى "الهيئة" من التشكيلات العسكرية والشخصيات الشرعية والعسكرية يفكرون في الاستقالة أو الانشقاق عنها، وهو ما شجعت عليه استقالة الشرعيين المحيسني والعلياني. واستقالة الرجلين شكلت ضربة موجعة لـ"تحرير الشام" تعادل، وربما تفوق انشقاق حركة "الزنكي"، لما لهما من تأثير كبير إعلامي وشرعي على عناصر وكوادر "تحرير الشام".
وتوقع عبدالله توسع عمليات الانشقاق والاستقالة عن "هيئة تحرير الشام" خلال المرحلة المقبلة، وأن تعود جميع الكتائب والقيادات والألوية التي انشقت عن "أحرار الشام" إلى هذه الحركة، أو أن تبقى على الحياد، وهو ما قد يمهد لظهور تشكيل جديد في الشمال السوري، يجمع هذه القوى المنشقة عن "تحرير الشام".