مع مرور شهر كامل على الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت في لبنان، في 4 أغسطس/ آب الماضي، وهزّ العاصمة مودياً بحياة 190 شخصاً وجرح 6500 آخرين، وتشريد نحو 300 ألف مواطن، يمكن تلخيص المشهد في لبنان بأربعة وقائع: سجون خالية من الرؤوس السياسية، مجزرة حوّلتها القوى السياسية إلى فرصةٍ لفكّ الحصار الدولي والغربي عليها وإعادة ضخّ الأموال داخلياً من بوابة المساعدات الإنسانية والغذائية والصحية، تسوية دولية مع الطبقة الحاكمة مشروطة بإصلاحات، وتظاهرات شعبية وممارسات قمعية وعنفية بحق متظاهرين على أنقاض الدمار حيث آثار دماء الضحايا لا تزال موجودة. مقابل ذلك، تبرز حقيقتان كبيرتان، الأولى فقدان الثقة بالتحقيقات المحلية في الانفجار، والثانية حلول ناشطين مكان الدولة في رفع الركام والأنقاض وتنظيف الشوارع والمنازل والمساعدة في إعادة البناء.
أما تطوّر الأحداث منذ 4 أغسطس الماضي وحتى اليوم، فلم يكن على مستوى فداحة الانفجار. في الخامس من أغسطس، تبنّى مجلس الوزراء اللبناني في جلسةٍ استثنائية انعقدت في قصر بعبدا برئاسة رئيس الجمهورية ميشال عون ما صدر عن المجلس الأعلى للدفاع في اجتماع، ليل الانفجار، لجهة إعلان بيروت مدينة منكوبة، وإعلان حال الطوارئ لمدة أسبوعين قابلة للتجديد. وقرّر تشكيل لجنة تحقيق إدارية لإدارة التحقيق في الأسباب التي أدت إلى وقوع الكارثة، واضعاً أمامها مهلة 5 أيام لرفع نتيجة التحقيقات، والطلب من السلطة العسكرية العليا فرض الإقامة الجبرية على كلّ من أدار شؤون تخزين نيترات الأمونيوم وحراستها ومحّص ملفها أياً كان منذ يونيو/ حزيران 2014 حتى تاريخ الانفجار. فانقضت مهلة الأيام الخمسة بلا أجوبة واضحة، لكن تلك الفترة شهدت استقالة حكومة حسان دياب في العاشر من أغسطس وإحالة ملف الانفجار إلى المجلس العدلي، علماً أن استقالات فردية لوزراء سبقت خطوة دياب.
لا تزال السجون خالية من الرؤوس السياسية في السلطة
في منتصف أغسطس، وبعد خلافات سياسية وطائفية حول اسم القاضي المرشح لتولي التحقيق بين وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم ومجلس القضاء الأعلى، باشر المحقق العدلي القاضي فادي صوان مهامه في منتصف أغسطس، وتسلّم الملف بعد الادعاء على 19 موقوفاً، من إداريين وأمنيين، قبل أن تتسع رقعة التوقيفات ويصدر صوان مذكرات توقيف وجاهية طاولت أكثر من عشرين موقوفاً، من بينهم مدير عام الجمارك بدري ضاهر، ورئيس مجلس إدارة المرفأ حسن قريطم، والمدير العام السابق للجمارك شفيق مرعي، ومدير دائرة المانيفست نعمة البراكس، وآخرين. في المقابل، أرجأ المحامي العام التمييزي القاضي غسان الخوري الجلسة التي كانت مقرّرة للاستماع إلى عددٍ من الوزراء الحاليين والسابقين المعنيين بملف مرفأ بيروت.
يقول مدعي عام التمييز السابق القاضي حاتم ماضي، لـ"العربي الجديد"، إنّ هناك شقّين للتحقيقات، الأول يرتبط بالإهمال وعلى أساسه يستجوب المحقق العدلي الموظفين بدءاً بالصغار وصعوداً إلى مجموعة من الأمنيين، متوقعاً أن تشمل المرحلة المقبلة التحقيق مع وزراء تعاقبوا على الوزارات المعنية بمرفأ بيروت، منها الأشغال العامة، والمال، والعدل. أما الشق الثاني، بحسب ماضي، فهو مرتبطٌ بالتثبت مما إذا كان الانفجار الذي وقع في المرفأ حدث بفعل فاعل، باعتبار أن مادة نيترات الأمونيوم لا تنفجر من تلقاء نفسها وتحتاج إلى عنصر خارجي ناري، وهذه الفرضية موجودة ويصار إلى التحقق منها فنياً وتقنياً من خلال تحليل التربة ورصد حركة الطيران، وهو محصور بالتحقيق الفني الآن وليس بالاستجوابات. وكان رئيس الجمهورية قد ترك فرضية قصف الطيران الإسرائيلي، حيث أفاد لبنانيون بأنهم سمعوا خروقاته للأجواء اللبنانية في بيروت قبيل وقوع الانفجار، مفتوحة، طالباً من فرنسا صوراً جوية من لحظة الانفجار. ويلفت ماضي إلى أنّ التحقيق اليوم هو لبناني محلي يتمّ بمساعدة دولية على الصعيدين التقني والفني بواسطة خبراء، سواء من الأميركيين أو الفرنسيين أو غيرهم، أما التحقيق الدولي فيحتاج إلى قرار يصدر عن مجلس الأمن.
من جهته، يقول وزير العدل السابق إبراهيم نجار، في تصريح لـ"العربي الجديد": "للوهلة الأولى يبدو المتهمون الصغار كثرا، بينما المتهمون الكبار مجهولين وكأن أحداً لم يرَ شيئاً أو يقرأ تقريراً، والشعب لم يعد يصدّق"، مضيفاً "نحن اليوم في مرحلة التحقيق وهو غير المحاكمة التي تأتي في مرحلة لاحقة. التحقيق اليوم عملياً بات مدوّلاً إذا عنينا بكلمة تحقيق معاينة ما هو على الأرض، أي أرض المرفأ والأضرار والمخاطر التي لا تزال تحيط ببيروت". ويشدّد على أن "هناك إشكالية قانونية غير مسبوقة. فقد تم توقيف ما لا يقل عن 20 شخصاً، فهل يعقل أن يكون كل هؤلاء الأشخاص ضالعين من دون أن يكون هناك مسؤول واحد يسأل عن فعلتهم، وهذا كله مستغرب. وعلى كلّ حال، فإنّ هذه تجربة أخرى للقضاء اللبناني".
أما المحامية ديالا شحادة، فتلفت في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ هناك إرباكاً كبيراً طاول الملف منذ البداية ولا يزال، وأدى إلى المسّ باستقلالية التحقيق، منها تنازع المصالح، لوجود قرابة بين المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات ووزير الأشغال السابق غازي زعيتر، ما يعرّض التحقيقات التي قام بها للإبطال، وبالتالي لا يمكن للمحقق العدلي الاعتماد عليها، من دون أن ننسى أيضاً أنّ عويدات هو موضع مساءلة أيضاً، فقد كان يعلم بالمواد المتفجرة واتخذ قراراً بشأنها ولم يفهم السبب وراء عدم تنفيذه، وقد يتجه للتنحي عن القضية". وتضيف أن "الأمر نفسه ينطبق لناحية انخراط عسكريين وغيرهم في التحقيقات، بينما يجب أن يكونوا في موقع المساءلة بالجريمة ولكن هذا لا يعني أنهم مدانون، وهذه تفاصيل كلها تمسّ باستقلالية التحقيق، في ظل تراجع ثقة الناس المفقودة أصلاً بأن القضاء قادر على البت بالملف بشكل مستقل وشجاع". وتشير شحادة إلى أنّ "مطلبنا هو إجراء تحقيق دولي، من خلال لجنة تقصي حقائق يشكلها الأمين العام للأمم المتحدة تكون خارج إطار مجلس الأمن، وهذا الأمر مسموح في حال تضرّر مصالح مرتبطة بالأمم المتحدة أو مؤسسات عائدة لها من جراء جريمة معينة، ما ينطبق على حالة تفجير مرفأ بيروت، وتقوم هذه اللجنة بفتح تحقيق موازٍ ومستقل. وعلى الدولة اللبنانية أن تمنحها القدرة للوصول إلى المستندات اللازمة من أجل متابعة التحقيق".
لم يتم الاستماع إلى أي وزير حالي أو سابق في مجزرة بيروت
وتلفت إلى أنّ "المشكلة مع مجلس الأمن إضافة إلى أن الإجراءات التي يتخذها قد تطول، لكن غالباً يكون هناك قلق من أن من يختاره المجلس كمحقق يكون متأثراً بالأزمات السياسية"، كاشفة عن "أننا سنوقّع في هذا الأسبوع عريضة عبر الإنترنت لتكون بمثابة رسالة مفتوحة إلى الأمين العام للأمم المتحدة".
على الصعيد السياسي، قدّم 8 نواب في البرلمان اللبناني استقالاتهم عقب الانفجار، وهم نواب حزب "الكتائب اللبنانية" الثلاثة، سامي الجميل، نديم الجميل، والياس حنكش، والنواب بولا يعقوبيان، هنري حلو، نعمة افرام، مروان حمادة وميشال معوض. وفي 6 أغسطس، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت، ليكون أول رئيس دولة كبرى يأتي إلى لبنان منذ وقوع الانفجار، وحمل معه خريطة سياسية اقتصادية لـ"إنقاذ البلاد" من الانهيار الشامل، ونظم مؤتمراً دولياً لدعم لبنان، وجمع رؤساء الكتل النيابية في قصر الصنوبر، مقرّ السفارة الفرنسية، في جلسة كان عنوانها الأساسي "التأنيب وتحميل الطبقة السياسية مسؤولية ما وصل إليه لبنان". وشدّد على ضرورة إحداث تغيير في النظام والعمل السياسي والتقيّد بإصلاحات مالية واقتصادية وسياسية، قبل أن يعود إلى بيروت في 31 أغسطس الماضي و1 سبتمبر/ أيلول الحالي، للإشراف شخصياً على المساعدات التي وصلت والأعمال التي تنفذ في المرفأ، والحركة السياسية التي أمهلها أسابيع قليلة حتى شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل لتنجز الإصلاحات، مهدداً بعقوبات، ليبدو كوصي على الساسة اللبنانيين.
نتائج زيارة ماكرون الأولى تجلّت في استقالة الحكومة اللبنانية في 10 أغسطس، ومن ثم دعوة الرئيس ميشال عون إلى استشارات نيابية ملزمة سبقت وصول ماكرون في زيارته الثانية إلى بيروت بساعات قليلة، وأفضت إلى تكليف السفير اللبناني لدى ألمانيا مصطفى أديب، لتشكيل حكومة عنوانها الإصلاحات وإعادة الاعمار، الذي سارع إلى إجراء استشارات التأليف، وسط حديث عن أن الحكومة ستبصر النور قريباً بضغطٍ من ماكرون. شعبياً، سجّلت بيروت تظاهرة حاشدة في 8 أغسطس، للمطالبة برحيل الطبقة السياسية الحاكمة وإجراء تحقيق دولي شفاف، وشهدت استعمال قوة مفرطة من قبل القوى الأمنية اللبنانية ضد المعتصمين السلميين، ما تسبب بوقوع مئات الإصابات بينهم، بحسب بيان صادر عن منظمة "هيومن رايتس ووتش". وأشارت المنظمة إلى أنّ القوات الأمنية أطلقت الذخيرة الحية والكريات المعدنية والخردق، على أشخاص، منهم موظفون وعاملون طبيون، وكميات مفرطة من الغاز المسيل للدموع وبشكل مباشر على المتظاهرين، فأصابتهم في الرؤوس والأعناق. ووثّقت "رايتس ووتش" من مصادر عديدة استعمال الذخيرة الحية ضد المتظاهرين، أو تصويبها عليهم في أربع مرّات متفرّقة في 8 أغسطس. في إحدى الحالات، أطلق جنديان نيران بندقيتيهما الهجوميتين باتجاه المتظاهرين. لم تُعرف هويات وتبعيات مطلقي النار في الحالات الثلاث الأخرى. وتقدّمت شحادة بدعوى قضائية ضدّ شرطة مجلس النواب في 19 أغسطس، بالوكالة عن متظاهر أُصيب برصاصة مطاطية وفقد عينه اليسرى. من جهته، أعلن المدير الإقليمي للبنك الدولي ساروج كومار جاه، بعد لقائه الرئيس عون، يوم الاثنين الماضي، في قصر بعبدا، أنّ الخسائر الأولية التي سبّبها انفجار مرفأ بيروت بلغت نحو 8.1 مليارات دولار.