منذ لحظة انطلاق المؤتمر، كانت التظاهرات في شوارع فيلادلفيا والأجواء داخل ميدان "ويلز فارغو" توحي بأن ساندرز فقد السيطرة على بعض مناصريه وأنه بدل تكريس زعامة كلينتون سيتمحور المؤتمر حول هذا الانقسام الحزبي. لكن مع كل خطاب مؤيد لكلينتون بدأت تخف تدريجياً صيحات الاستهجان في القاعة وصولاً إلى خطاب ساندرز الذي كان بمثابة صحوة لمناصريه أن لا مفر من دعم المرشحة الديمقراطية. رسالة ساندرز لهم كانت "الثورة السياسية مستمرة" في أشكال أخرى من النشاط الحزبي، وأن القاعدة اليسارية لديها الآن صوتاً قوياً داخل الحزب، وفي نهاية المطاف "يجب أن تكون هيلاري كلينتون رئيسة الولايات المتحدة المقبلة".
فعلت كلينتون كل ما في وسعها لنزع فتيل المواجهة مع ساندرز ومناصريه. أصدر الحزب الديمقراطي رسمياً "اعتذاراً صادقاً" من المرشح اليساري بعدما كشفت "ويكيليكس" عن رسائل الكترونية عكست سعي المؤسسة الحزبية لإقصائه في الانتخابات التمهيدية.
في البداية تحدثت حملة كلينتون عن دور معادي لموسكو في خطوة تسريب رسائل "ويكيليكس"، لكن مع ظهور ملامح انتفاضة داخل القاعة استدركت حملة كلينتون عمق الأزمة وتركت الساحة لمندوبي ساندرز للتعبير عن آرائهم تمهيداً لمحاولة طي صفحة الخلاف الداخلي.
على عكس الرئيس باراك أوباما، الذي أصبح هو نفسه المؤسسة الحزبية بدل محاولة إصلاحها، لم يطلب ساندرز شيئاً لنفسه بعد الانتخابات التمهيدية بل أصرّ على أخذ برنامج الحزب إلى اليسار، ولا سيما في القضايا الاقتصادية. طلب ساندرز تعديل قواعد الحزب التي تعطي نفوذاً واسعاً للمندوبين الكبار، أي كبار المسؤولين في المؤسسة الحزبية بدل المواطنين الذين يتم انتخابهم. التسوية التي تم التوافق عليها تقضي بتشكيل لجنة تعمل على تقليص ثلث عدد المندوبين الكبار خلال عملية اختيار المرشح الرئاسي في الانتخابات التمهيدية المقبلة.
ساندرز، مع 13 مليون صوت في الانتخابات التمهيدية، يمثل 40 في المائة من الحزب الديمقراطي. وفي حال فازت هيلاري وقررت أن تحكم من الوسط ستواجه من دون أي شك متاعب من مناصري الحزب الذين لا يرتاحون إليها في الأصل. خطاب قبولها الترشيح ليل الخميس المقبل (توقيت فيلادلفيا) سيكون بمثابة اختبار لمدى تقبل القاعدة اليسارية لفكرة ترشيح كلينتون، والأهم من ذلك إلى أي مدى ستكون هذه القاعدة ملتزمة بالعمل على الأرض لإيصال المرشحة الديمقراطية إلى البيت الأبيض.
بالفعل خطابات اليوم الأول كانت مخصصة للتأكيد على التزام كلينتون بالقضايا التقدمية، أما الهجوم على ترامب فاقتصر على تسليط الضوء على إهاناته المتكررة للأقليات ومواقفه من النساء وسوء إدارته لمشاريعه التجارية. ما ساعد على التفاف الديمقراطيين حول كلينتون هو استطلاعات الرأي الجديدة بعد مؤتمر الجمهوريين في كليفلاند والتي عكست تقدماً لترامب في الانتخابات العامة. اللافت أيضاً مدى دخول ترامب على خط الانقسام الحزبي بين الديمقراطيين، ورهانه على أن شعور مناصري ساندرز بالغبن سيدفعهم إلى التصويت للجمهوريين.
تحتاج كلينتون إلى دعم ساندرز أكثر مما تحتاج إلى دعم أوباما، لأنه يمثّل الآن الحركة الاعتراضية. ونجح ساندرز إلى حد كبير في إبقاء مناصريه داخل خيمة الحزب. لكن التحولات التي يدخلها ساندرز على هيكلة وبرنامج الحزب الديمقراطي ستجعل القاعدة اليسارية رقماً صعباً في المعادلة، وقد تدفع كلينتون إلى إجراء تسويات مع المعتدلين على الضفة الجمهورية، ولا سيما في السياسة الخارجية إذا فازت بالرئاسة هذا الخريف. وعلى الرغم من أن المرشح الديمقراطي يتحول عادةً من اليسار في الانتخابات التمهيدية إلى الوسط خلال الانتخابات العامة، فإن ساندرز فرض على كلينتون تحولاً معاكساً نتيجة الانقسامات الأيديولوجية في السياسة الأميركية. إذا أرادت المرشحة الديمقراطية تطمين القاعدة اليسارية هذا الأسبوع، فإنه سيكون أمامها تحدي إثبات مدى التزامها بالسياسات التقدمية في الاقتصاد والسياسة الخارجية، ولا سيما إعلان موقف رافض لمبدأ التدخل العسكري حول العالم.