انتصار أردوغان.. يدشن ولادة تركيا الجديدة

31 مارس 2014
اردوغان يحي الجماهير بعد النصر (Getty)
+ الخط -

"دعونا نوجّه لهم صفعة عثمانية"، بهذه الكلمات حشد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أنصاره عشية انتخابات المجالس المحلية، في معركة وصفها كل المراقبين بأنها مصيرية بالنسبة لمسيرة الرجل السياسية، والتي كان تعهد قبلها بأنه سيعتزل السياسة إذا خسر "المعركة".

ولم يكن السباق المحموم بين الحزب الحاكم والمعارضة التي توحدت كلها ضده، هنا، إلا تعبيرا عن وقوف البلاد أمام مفترق طرق حاسم، إما مواصلة المسيرة خلف الأردوغانية أو العودة إلى المسار الكمالي التغريبي.

ونظر أردوغان من اليوم الأول لانطلاق الحملات الانتخابية على أنها معركة حاسمة نحو تجديد الشرعية في حكمه الذي بدأ بولادة الجمهورية الثانية في العام 2002، ومؤشرا مهما لنتائج الانتخابات البرلمانية في العام المقبل، وهي الأهم بطبيعة الحال.

المعطيات شبه الرسمية أكدت تحقيق حزب العدالة والتنمية انتصارا تجاوز نسبة 48 في المئة من مقاعد المجالس المحلية على مستوى 81 محافظة، وهي نسبة قريبة جدا من نسبة العام 2009، لكنها توضح أن الشعب التركي لا يزال راضيا عن أداء رئيس حكومته.

وجاءت هذه الانتخابات، في ظروف غير مواتية للحزب الحاكم، بعد عام مليء بالاضطرابات والفضائح السياسية، كانت أولى هزاته في ساحة تقسيم 28 مايو/ أيار الماضي، حيث اندلعت المظاهرات في إسطنبول وأنقرة وعدد من المدن الكبرى من قبل قوى شبابية ناشطة في مجال الحريات بذريعة إزالة حديقة عامة وبناء متحف عثماني مكانها.

واستغلت المعارضة بقيادة حزب الشعب الجمهوري المزاج العام لكسب تعاطف شعبي ضد حزب الحرية والعدالة. لكن حسابات كمال كليجدار أوغلو، خيبت ظنه، بتمسك أردوغان بموقفه دون هوادة، ودون إظهار أي ضعف أمام المحتجين، حاشدا أنصاره في أكثر من مدينة وبلدة وحتى في معقل الأكراد ديار بكر، ليؤكد على ان غالبية الشعب تقف خلفه.

احتمى أردوغان حينها خلف ميزة اليد النظيفة ومحاربة الفساد، وهي التي وضعته على سدة الحكم طيلة 10 سنوات، لكنها نفسها هي التي كادت أن تطيح به في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، في واحدة من أشد الأزمات التي مرت بها تركيا، وألحقت خسائر بالمليارات في بورصة إسطنبول.

وكما في مظاهرات ميدان تقسيم، انتقل أردوغان سريعا من الدفاع إلى الهجوم، فبعد استقالة ثلاثة من وزراءه متورطين في قضايا سرقة أموال عامة، بينهم وزير الداخلية، هاجم أردوغان معارضيه بقوة وحشد أنصاره في 17 يناير / كانون الثاني الماضي، ليتحدث عن ما يعتبرها حقائق، بشأن وقوف الدولة العميقة التابعة للداعية المقيم في أميركا، حليفه السابق، فتح الله غولن، وراء تسريبات عن تحقيقات شرطية وقضائية بشكل غير قانوني، ودونما التنسيق بين السلطتين التنفيذية والقضائية.

القشة التي كان يفترض أن تقسم ظهر أردوغان، أدت إلى اقالة عشرات القضاة ومئات ضباط الشرطة بينهم قائد شرطة إسطنبول ومدعي عام المدينة التي تعتبر معقلا لأردوغان وسببا في صعود نجمه السياسي عندما كان رئيسا لبلديتها حتى العام 1999.

ومع كل تسريب جديد عن قضايا فساد، طالت في بعض منها ابنه الأصغر بلال، وعدد من رجال الاعمال المقربين من حزب العدالة والتنمية، ومنهم رجل الأعمال الإيراني الأصل رضا زراب، الذي اتهم بأنه كان حلقة وصل لتهرب إيران من العقوبات المفروضة عليها من الغرب بسبب برنامجها النووي. كان أردوغان يصر على انه ضحية "مؤامرة".

واتخذت الحكومة التركية إجراءات حازمة ضد التسريبات، نظر لها من قبل الغرب بأنها مساس بالحريات، حيث انتهى الأمر إلى تعطيل موقع تويتر ومراقبة "يوتيوب" داخل تركيا، بعد تسريبات مسجلة ومرصودة من قبل شركة أميركية عن اتصالات لرئيس الوزراء نفسه، وأخرى لرئيس المخابرات هاكان فيدان، وتتحدث عن عملية عسكرية محتملة لحماية نصب سليمان شاه، جد العثمانيين في شمال حلب السورية من استهداف تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش".

السجالات الداخلية والاتهامات بالفساد والمؤامرة، كانت وبلا شك كان محور الاهتمام لدى معارضي أردوغان، من حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية، لكن ذلك لم يمنع من انتقاده بسبب موقف التصعيدي ضد الانقلاب في مصر على الرئيس المنتخب محمد مرسي، واصراره على استخدام شارة رابعة بعد فض اعتصام المحتجين ضد وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي في 14 أغسطس/ آب الماضي.

هذا الموقف الذي أدى إلى خفض التمثيل الدبلوماسي بين البلدين، فضلا عن تشكيك المعارضة بجدوى سياسة أردوغان تجاه الثورة السورية، كلها كانت من المواضيع الإشكالية التي عوّلت عليها المعارضة عليها من أجل اسقاط حزب أردوغان.

لكن الحزب الحاكم لم ينتظر المفاجآت، وقاد أردوغان بنفسه الحملة الانتخابية على مدار أكثر من ثلاثة شهور متنقلا بين أكثر من 31 مدينة وبلدة تركية، مركزا خطابه عن استحقاق تاريخي للتجربة التي قادها مع رفيقه ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو، منظر العثمانية الجديدة.

وارتكز خطاب أردوغان لما قبل الانتخابات، على ثلاثة عناصر أساسية، أولا" التركيز على انجازاته الاقتصادية وسياسة تقليص الفجوات بين الطبقات، وتذكير الناخبين بزمن الفساد والفقر والبطالة زمن حكومات بولانت أجاويد وتانسو تشيلر.

ولا يخفى بحسب المراقبين أن شرعية أردوغان الرئيسية جاءت من برامجه الاقتصادية التي انتشلت تركيا من مصاف الدول الفقيرة المثقلة بالديون والتي تعاني من التضخم، قبل نحو عقد من الزمن، إلى واحدة من كبريات الدول الصناعية الجديدة، في ترتيب يصل إلى التصنيف 15 على مستوى العالم من ناحية إجمالي الناتج المحلي والقوة الشرائية.

هذه القفزة لم تكن لولا حرب أردوغان الطويلة على الفساد والمحسوبية، وفصل مؤسسات الدولة ومنها الجيش عن الاقتصاد الوطني، وكان أردوغان يكرر دائما أنه لن يسمح لعودة دولة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي حيث انتشرت الرشوة، وفساد ضباط الجيش ووكلاء الشركات الغربية والمتربحين.  لكن زعيم الحزب الإسلامي المعتدل والمنشق عن الأصولي الراحل نجم الدين أربكان، كان شديد الحرص في نقده للجمهورية التركية القديمية بعدم المساس او نقد الأتاتوركية على العلن.

الركيزة الثانية في خطاب أردوغان كانت بالتأكيد على الخطاب الجامع للهويات والمكونات التركية في ظل الهوية العثمانية الجديدة التي لم يخف اعتزازه بها وبتراثها كأساس للهوية التركية الحديثة، التي تبدأ هنا قبل مصطفى كمال أتاتورك.

وثالثا التذكير، بمكانة تركيا العالمية ودورها في جعلها محورا أساسيا في الشرق الأوسط، ووقوفها مع شعوب المنطقة وثوراتهم، رغم أن تركيا لم تكن إلى جانب الثورة الليبية، وأن أنقرة لم تعد تابعا كما في السابق لأميركا والاتحاد الأوروبي، متباهيا بموقف حكومته من الأزمة في سوريا ومصر وقطاع غزة، بشكل خاص.

وفي خطاب النصر الليلة الماضية في أنقرة، خاطب أردوغان الجموع بأن فوز مرشحي التنمية والعدالة هو "يوم زفاف تركيا الجديدة. يوم النصر لتركيا الجديدة..  وقال "77 مليون شخص متحدون ومعا إخوة متحدين .. تركيا للجميع".

لم تكن أزمة الشهور الماضية الأشد على أردوغان، الذي جرب محنة السجن لاتهامه بالمس بالعلمانية الأتاتوركية، كما ان أزمة الأمس لم تكن أقل من مواجهة ما اصطلح عليه في العام 2003 بتفكيك تنظيم ارغاناكون العسكري، الذي اتهم بمحاولة الانقلاب على حكومته.

ويلحظ المتابعون أن أردوغان بعد هذا النصر شبه الأكيد، قد خرج أكثر قوة متمتعا بثقة شعبية وفق أسس ديمقراطية، واستطاع أن يحسم بشكل نهائي ملف تدخلات الجيش، بل كان من القوة أن سمح بإعادة محاكمة رئيس الأركان الأسبق أولكر باشبوغ، ملقيا باللائمة في مسألة زجه بالسجن على كاهل قضاة يتبعون غولن. وهو يتمتع بعلاقة نافذة إلى وسائل اعلام تركية تؤيده.

ويبقى الاستحقاق البرلماني في العام المقبل هو الفصل الأهم في مسيرة أردوغان، بالنظر إلى أن المعارضة لم تسلّم بعد بسهولة في الهزيمة رغم احتفاظه بتأييد غالبية المدن الرئيسية من إسطنبول إلى أنقرة وأنطاليا. ويبدو أيضا أن أردوغان خرج من أزمة العام الماضي أكثر قوة ليدشن عصر تركيا جديدة أو دولة المؤسسات على أنقاض حليفه غولن أو آخر بقايا الدولة العميقة. 




(صورة من على موقع تويتر
لصبية أتراك يرفعون علم مصر وفلسطين
ابتهاجا بفوز حزب أردوغان)