07 اغسطس 2014
انتصاراً للحق بالحياة والحرية الجنسية
"ليس جديدًا علينا الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام في تحريك الشارع وصياغة الرأي العام، والذي قد يتراوح بين الدّعوة لنقاش مجتمعي مسؤول وبنّاء، حتّى المساهمة في تأجيج العنف المجتمعي وزيادة التحريض على فئة أو أشخاص معيّنين". كانت هذه الكلمات مقدّمة البيان الذي أصدرته مؤسسة "القوس للتعددية الجنسية والجندرية في المجتمع الفلسطيني"، في إطار انتقادها المقالة التي نشرت في "العربي الجديد" للزميل معن البياري بعنوان "انتصاراً للشرطة الفلسطينية". واعتبرت المؤسسة المقال مادة تحريضيّة جديدة على الأشخاص "الذين يعيشون توجهات جنسية وجندرية مختلفة"، وهو عموماً الاستنتاج الوحيد الذي يمكن استخلاصه من مقالة الزميل، في خضمّ كل هذا التحريض ضد "القوس" والذي توّج ببيان للشرطة يهاجم بشكل مباشر الجمعية ويشجع على التعامل مع المثليين بوصفهم خارجين عن القانون.
يطرح المقال تساؤلات عدّة، تأتي من خارج السياق الحاليّ للنقاش حول المثلية الجنسية في العالم العربي، وبعيداً عن أي اطلاع أو متابعة لهذا الملف، في العقدين الأخيرين من الزمن.
لنتفق بداية أن أي نقاش عن المثلية الجنسية إيجابي، تحديداً في الوقت الحالي، حيث انكسرت الهالة المحرّمة المحيطة بالموضوع في أكثر من بلد عربي، إلا أن اختيار مدخل القيم والأخلاق، وليس الحرية الشخصية ومجال الفرد الخاص، لمقاربة الموضوع خاطئ، فاختيار هذا المدخل مجرد انسياق إلى رغبة بتأطيره داخل خطوط عريضة تجعل من المثلية فعلا يقارب الجريمة.
في أكثر من بلد عربي، خرج المثليون من الظل. تحت الشمس يعلنون عن نشاطاتهم ومخيماتهم. وهو ما حصل مع دعوة "القوس" إلى مخيم "كويري" للمثليين والمثليات. البوح حول الميول الجنسية والكلام والبلاغة، في بلاد لا شك أن همومها الكبرى وطنية جماعية متعلقة بالتحرّر من الاحتلال (والتحرر من الاستبداد والظلم الاجتماعي والسياسي في بلدان أخرى)، واستخدام المصطلحات المباشرة المرتبطة بموضوع محرّم، أثار حفيظة فلسطينيين وعرب كثر. هؤلاء تماما كما الزميل معن البياري طرحوا سلسلة أسئلة، باتت الإجابة عليها معروفة ومنتشرة ومثبتة في بلدان أخرى منذ سنوات طويلة: "هل يزاول المثليون والمثليّات، ثنائيو الميول الجنسية، والمتحوّلون والمتحوّلات، حرّياتٍ فرديةً، أم هم مرضى يحتاجون علاجا طبيا ونفسيا؟" هو ربما السؤال المحوري الذي تتفرّع منه باقي أسئلة المقالة.
أعلنت الجمعية الأميركية لعلم النفس، في العام 1974، أن المثلية الجنسية ليست مرضاً نفسياً، وحذفت منظمة الصحة العالمية عام 1990 هذه الظاهرة من سجلاتها، باعتبارها ليست مرضاً. وكما تشرح منظمة الصحة أنه ليس للمثلية أية أعراض، وبالتالي اعتبارها مرضا جزء من التعامل غير العلمي مع الظواهر التي تخرج عن السائد في المجتمع. أما محاولات "علاج" المثليين/ات فهي مجرّد خدعة طبية، أثبتت فشلها، وقد دانت منظمة الصحة ما يسمى علاج المثلية من خلال حقن المثليين بجرعات عالية من التيستوستيرون والمقويات الجنسية في مقابل مبالغ مالية طائلة، أو من خلال إخضاع المثلي للعلاج بالصدمات الكهربائية. كل هذه "العلاجات" تدفع كثيرين إلى الانتحار، أو العزلة. وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي في العام 2018 إلى منع هذه الممارسات تحت طائلة الملاحقة القانونية.
وفي لبنان، في يوليو/ تموز 2018، أيضا صدر قرار قضائي جديد يرفض اعتبار المثلية جُرماً. وفيما هذا القرار هو الخامس من نوعه، فإنه يتميز أنه يصدر للمرة الأولى عن محكمة استئنافية، بحيث أن القرارات الأربعة السابقة صدرت عن قضاةٍ منفردين جزائيين، وفق ما ذكر موقع "المفكرة القانونية". في العام نفسه، أعلنت الجمعية اللبنانية لعلم النفس "أنها لا تعتبر المثلية مرضاً، لكونها ظاهرة طبيعية وسليمة تختصّ بالتصرّف البشري والعلاقة البشرية، وبالتالي ليس لها أي عوارض، حتى نضعها في خانة المرض".
كل ما سبق وتوج نضالات استمرت أكثر من نصف قرن في أوروبا وأميركا والهند، لنشاطين/ات مثليين/ات. من هنا تحديدا كان للنقاش أن يبدأ. في مجتمعاتٍ كثيرة، يتم التعامل مع الجسد بشكل غامض ومريب: أجساد النساء عبءٌ على المجتمع، أجساد الرجال معيار فحولتهم، وبينهما تابو الحرية الجنسية. جمعيات ومؤسسات مثل "القوس" في فلسطين، و"حلم" في لبنان، و"موجودين" في تونس، هي التي نجحت عربيًا في كسر هذه الهالة المقدّسة التي تحيط بالأجساد، ومعها نضالات لجمعيات وناشطات نسويات. وحولت نقاش الجسد من نقاشٍ يخص المجتمع وشرفه وأخلاقه إلى نقاش حول احترام حرية الفرد التصرف بجسده، وإعطائه مكانته في المجتمع بعيدا عن الأطر القانونية والتعريفات الاجتماعية للطبيعي و"الشاذ".
لماذا إذا لا نسمي المثلية بالشذوذ الجنسي؟ يسأل الزميل معن البياري ومعه جموع من الغاضبين عن نشاط هذه الجمعيات. قد يكون الجواب البديهي على هذا السؤال أن تحديد القاعدة، والشاذ عنها، أمر نسبي، تحديداً في مواضيع حميمة وشخصية كالخيارات الجنسية. وهو خيار تدعمه عشرات الدراسات العالمية، وبينها دراسة للمنظمة الأميركية لعلم النفس (28 مايو/ أيار 2003)، التي خلصت إلى أن المثلية الجنسية تنوّع طبيعي في الحياة البشرية، ولا تسبب أي اضطراب نفسي أو جسدي، ولا تعيق أي شكل من أشكال الحياة الصحية للفرد.
لا تطلب "القوس"، ولا المثليون، من أي فرد في المجتمع توزيع أحضان مجانية لهم، ولا معاملتهم بشكل مخالفٍ لمعاملة أي فرد، بل مجرد الاعتراف بحقهم في خياراتٍ لا تتماشى مع نظرة المنظومة الاجتماعية العامة للحب والجنس والعلاقات. احترام يمنع عنهم العنف الذي أودى بحياة مئات منهم بجرائم كراهية تحصل في الشوارع والبيوت كل يوم.
تؤكد المقالة رفض المجتمع الفلسطيني والعربي المثلية، لكن رفض المثلية لا ينفي وجودها، ولا يخفي المثليين، والانتصار للقيم، لن يعطي مهاجمي "القوس" أي تفوقٍ أخلاقي على المثليين. يبقى موقف الانتصار للشرطة الفلسطينية في ملاحقتها وقمعها لمواطنين مدنيين مسالمين، متماهيا مع دور المثقف العربي التقليدي المكمل للسلطة، ومستغربا من الزميل معن البياري.
يطرح المقال تساؤلات عدّة، تأتي من خارج السياق الحاليّ للنقاش حول المثلية الجنسية في العالم العربي، وبعيداً عن أي اطلاع أو متابعة لهذا الملف، في العقدين الأخيرين من الزمن.
لنتفق بداية أن أي نقاش عن المثلية الجنسية إيجابي، تحديداً في الوقت الحالي، حيث انكسرت الهالة المحرّمة المحيطة بالموضوع في أكثر من بلد عربي، إلا أن اختيار مدخل القيم والأخلاق، وليس الحرية الشخصية ومجال الفرد الخاص، لمقاربة الموضوع خاطئ، فاختيار هذا المدخل مجرد انسياق إلى رغبة بتأطيره داخل خطوط عريضة تجعل من المثلية فعلا يقارب الجريمة.
في أكثر من بلد عربي، خرج المثليون من الظل. تحت الشمس يعلنون عن نشاطاتهم ومخيماتهم. وهو ما حصل مع دعوة "القوس" إلى مخيم "كويري" للمثليين والمثليات. البوح حول الميول الجنسية والكلام والبلاغة، في بلاد لا شك أن همومها الكبرى وطنية جماعية متعلقة بالتحرّر من الاحتلال (والتحرر من الاستبداد والظلم الاجتماعي والسياسي في بلدان أخرى)، واستخدام المصطلحات المباشرة المرتبطة بموضوع محرّم، أثار حفيظة فلسطينيين وعرب كثر. هؤلاء تماما كما الزميل معن البياري طرحوا سلسلة أسئلة، باتت الإجابة عليها معروفة ومنتشرة ومثبتة في بلدان أخرى منذ سنوات طويلة: "هل يزاول المثليون والمثليّات، ثنائيو الميول الجنسية، والمتحوّلون والمتحوّلات، حرّياتٍ فرديةً، أم هم مرضى يحتاجون علاجا طبيا ونفسيا؟" هو ربما السؤال المحوري الذي تتفرّع منه باقي أسئلة المقالة.
أعلنت الجمعية الأميركية لعلم النفس، في العام 1974، أن المثلية الجنسية ليست مرضاً نفسياً، وحذفت منظمة الصحة العالمية عام 1990 هذه الظاهرة من سجلاتها، باعتبارها ليست مرضاً. وكما تشرح منظمة الصحة أنه ليس للمثلية أية أعراض، وبالتالي اعتبارها مرضا جزء من التعامل غير العلمي مع الظواهر التي تخرج عن السائد في المجتمع. أما محاولات "علاج" المثليين/ات فهي مجرّد خدعة طبية، أثبتت فشلها، وقد دانت منظمة الصحة ما يسمى علاج المثلية من خلال حقن المثليين بجرعات عالية من التيستوستيرون والمقويات الجنسية في مقابل مبالغ مالية طائلة، أو من خلال إخضاع المثلي للعلاج بالصدمات الكهربائية. كل هذه "العلاجات" تدفع كثيرين إلى الانتحار، أو العزلة. وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي في العام 2018 إلى منع هذه الممارسات تحت طائلة الملاحقة القانونية.
وفي لبنان، في يوليو/ تموز 2018، أيضا صدر قرار قضائي جديد يرفض اعتبار المثلية جُرماً. وفيما هذا القرار هو الخامس من نوعه، فإنه يتميز أنه يصدر للمرة الأولى عن محكمة استئنافية، بحيث أن القرارات الأربعة السابقة صدرت عن قضاةٍ منفردين جزائيين، وفق ما ذكر موقع "المفكرة القانونية". في العام نفسه، أعلنت الجمعية اللبنانية لعلم النفس "أنها لا تعتبر المثلية مرضاً، لكونها ظاهرة طبيعية وسليمة تختصّ بالتصرّف البشري والعلاقة البشرية، وبالتالي ليس لها أي عوارض، حتى نضعها في خانة المرض".
كل ما سبق وتوج نضالات استمرت أكثر من نصف قرن في أوروبا وأميركا والهند، لنشاطين/ات مثليين/ات. من هنا تحديدا كان للنقاش أن يبدأ. في مجتمعاتٍ كثيرة، يتم التعامل مع الجسد بشكل غامض ومريب: أجساد النساء عبءٌ على المجتمع، أجساد الرجال معيار فحولتهم، وبينهما تابو الحرية الجنسية. جمعيات ومؤسسات مثل "القوس" في فلسطين، و"حلم" في لبنان، و"موجودين" في تونس، هي التي نجحت عربيًا في كسر هذه الهالة المقدّسة التي تحيط بالأجساد، ومعها نضالات لجمعيات وناشطات نسويات. وحولت نقاش الجسد من نقاشٍ يخص المجتمع وشرفه وأخلاقه إلى نقاش حول احترام حرية الفرد التصرف بجسده، وإعطائه مكانته في المجتمع بعيدا عن الأطر القانونية والتعريفات الاجتماعية للطبيعي و"الشاذ".
لماذا إذا لا نسمي المثلية بالشذوذ الجنسي؟ يسأل الزميل معن البياري ومعه جموع من الغاضبين عن نشاط هذه الجمعيات. قد يكون الجواب البديهي على هذا السؤال أن تحديد القاعدة، والشاذ عنها، أمر نسبي، تحديداً في مواضيع حميمة وشخصية كالخيارات الجنسية. وهو خيار تدعمه عشرات الدراسات العالمية، وبينها دراسة للمنظمة الأميركية لعلم النفس (28 مايو/ أيار 2003)، التي خلصت إلى أن المثلية الجنسية تنوّع طبيعي في الحياة البشرية، ولا تسبب أي اضطراب نفسي أو جسدي، ولا تعيق أي شكل من أشكال الحياة الصحية للفرد.
لا تطلب "القوس"، ولا المثليون، من أي فرد في المجتمع توزيع أحضان مجانية لهم، ولا معاملتهم بشكل مخالفٍ لمعاملة أي فرد، بل مجرد الاعتراف بحقهم في خياراتٍ لا تتماشى مع نظرة المنظومة الاجتماعية العامة للحب والجنس والعلاقات. احترام يمنع عنهم العنف الذي أودى بحياة مئات منهم بجرائم كراهية تحصل في الشوارع والبيوت كل يوم.
تؤكد المقالة رفض المجتمع الفلسطيني والعربي المثلية، لكن رفض المثلية لا ينفي وجودها، ولا يخفي المثليين، والانتصار للقيم، لن يعطي مهاجمي "القوس" أي تفوقٍ أخلاقي على المثليين. يبقى موقف الانتصار للشرطة الفلسطينية في ملاحقتها وقمعها لمواطنين مدنيين مسالمين، متماهيا مع دور المثقف العربي التقليدي المكمل للسلطة، ومستغربا من الزميل معن البياري.