انتخابات بيروت أمام مشروعين: تحالف السلطة يخشى أهل الاختصاص

07 مايو 2016
يغلب الطابع الشبابي المدني على "بيروت مدينتي" (حسين بيضون)
+ الخط -
تبدو لائحة "بيروت مدينتي" أقرب إلى قارورة أوكسيجين منها إلى لائحة انتخابية في استحقاق محلي تبدأ أولى محطاته في لبنان غداً الأحد في العاصمة ومحافظة البقاع، شرقي لبنان. انتشلت هذه اللائحة العاصمة اللبنانية من الموت السريري الذي دخلته منذ أحداث السابع من مايو/أيار 2008. للوهلة الأولى، تظهر هذه المقاربة وكأنها مفتعلة. فاللائحة تواجه لائحة زعيم تيار المستقبل سعد الحريري متحالفاً مع معظم الأحزاب الموجودة في بيروت من 8 آذار و14 آذار (لائحة البيارتة)، ولو أنّ الحريري صوّر نفسه الضحية الأولى لاجتياح بيروت من قبل حزب الله. هذا صحيح في الشكل. أما في المضمون، فإن "البيارتة" (أهل بيروت) كانوا الضحية. ولهذا الوصف، أي "البيارتة"، معانٍ مختلفة. يمكن أن يضيق ليتّسع، لمن تسجل هوياتهم في سجلات نفوس هذه المدينة، ويُمكن أن يتسع، ليطاول كل من يسكن ويعمل في المدينة. كل من يُشارك في صنع حاضر ومستقبل عاصمة لبنان. باختصار، كل من يبعث الروح في جسد مبعثر.

بيروت، هي عاصمة لبنان. هي من المدن القديمة في ساحل المتوسط، يعود اسمها إلى كثرة وجود آبار المياه فيها، إذ إن الكلمة الفينيقية "بيروت" تعني الآبار. ومن المفارقات، فإن صهاريج المياه تجتاح المدينة صيفاً لتروي أهلها، بسبب الانقطاع الدائم للمياه. مثّلت بيروت نموذجاً مصغّراً للبنان، بتنوعها الديني والاقتصادي والسياسي وصيغها الاجتماعية. هي ليست كذلك اليوم. اختفت الزراعة في بيروت، لتحلّ مكانها الأسواق التجارية. غابت الصناعة والمهن الحرفية لتسيطر المطاعم. تحوّلت المدينة إلى شوارع تجارية، وأحياء سكنية لميسوري الحال، إنْ لم نقل الأغنياء، وبعض أحزمة البؤس التي تصل بين المدينة وضواحيها.

كانت بيروت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عاصمة للعالم العربي. انتعشت الحياة الثقافية والفنية والسياسية فيها. من جامعاتها نشأت حركة طلابية لبنانية فاعلة، طرحت مشاريع سياسية حقيقية. حضنت حركات التحرر العربي والدولي وشعارات الثورات أينما كان. كانت ملتقى للمعارضين والفنانين، ومقصداً للسياح العرب والغربيين. كانت مدينة تعشق الحياة. دفعت في الحرب الأهلية ثمناً كبيراً. دُمّر وسطها، وقُسّمت "شرقية" و"غربية"، وفُرز سكانها مذهبياً. لم يكن تدميرها حكراً على المليشيات اللبنانية والفلسطينية، بل كان للجيش الإسرائيلي دور كبير في تدميرها بعد حصارها لأشهر. ولم يكن الجيش السوري أكثر رأفة تجاهها. ساهم الجميع في تدميرها، محبوها وكارهوها.

استكملت إعادة الإعمار التي حصلت بعد الحرب الأهلية تشويه المدينة. في الشكل، أُعيد إعمار وسطها التجاري، وبُنيت الجسور والأنفاق والطرقات. لكن بناء المدن لا يقتصر على الحجر. شكّلت "سوليدير"، وهي الشركة التي كُلفت بإعادة إعمار الوسط التجاري، نموذجاً للحوت العقاري الذي حوّل بيروت إلى شقق فارهة أقصى ما يحلم به أهلها هو التقاط الصور بالقرب منها. وتحوم حول هذه الشركة الكثير من الانتقادات، إنْ لجهة مصادرة حقوق الملاك للوسط التجاري، أو لجهة العمارة التي اعتُمدت. يكثر الحديث حول هذا الموضوع، لكن الخلاصة، كانت هجرة من بيروت إلى ضواحيها الجديدة.

اليوم، يرأس اللائحة الأوفر حظاً للفوز في انتخابات بلدية بيروت، المدير العام لـ"سوليدير" نفسها. يبدو الأمر أقرب من مزحة سمجة. المدير العام للشركة المتهمة بـ"التهام" حقوق أصحاب وسط بيروت التجاري، يرأس لائحة اسمها "لائحة البيارتة". يرفض رئيس اللائحة جمال عيتاني في حديث مع "العربي الجديد" أن يكون هذا الأمر اتهاماً. يدافع عيتاني عن مشروع الوسط التجاري. يرى أن الأسباب لاعتماد هذا النموذج كانت ضرورية، ويشير إلى أنه كان يُفترض تطوير باقي مناطق بيروت، وبسبب عدم حصول هذا الأمر غادر أهل بيروت مدينتهم. إذاً، يريد "تطوير" باقي مناطق بيروت مستفيداً من تجربة "سوليدير".

تجري الانتخابات البلدية في بيروت، وكأنها مدينة واحدة. الواقع يقول عكس ذلك. هي مدن لا قواسم بينها. لا شيء يجمع وسط بيروت التجاري، بـ"الخندق الغميق" (أحد أكثر الأحياء فقراً في بيروت على بعد عشرات الأمتار من ثراء وسط المدينة). لا شيء يجمع أيضاً، مثلاً، الأشرفية (الحي المسيحي الأكبر في بيروت) مع "طريق الجديدة" (الخزان الانتخابي والشعبي لتيار المستقبل والطائفة السنية في بيروت). المسافة الجغرافية بين الأحياء ليست السبب في هذه الفوارق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. لو كان الأمر كذلك، لكانت العلاقة بين طريق الجديدة وشارع بربور (معقل حركة أمل) في أحسن حالاتها، وهي ليست كذلك.

بيروت أشبه بمربعات أمنية. بعضها، "رسمي" كساحة النجمة (مقر البرلمان)، وبعضها الآخر مغلق بقوة الزعيم، مثل محيط مقر رئيس مجلس النواب نبيه بري في عين التينة ومحيط منزل سعد الحريري في وادي أبو جميل. الأكثر فداحة، هي المربعات المليشيوية. في شارع الحمراء نموذج لهيمنة الحزب السوري القومي الاجتماعي. وفي زقاق البلاط، يفرض حزب الله سطوته وسلطته وثقافته. لا يمكن ذكر كل الشوارع والأزقة المصادرة. الجميع يعزو السبب للأوضاع الأمنية. ولا يمكن استبعاد هذا العامل نهائياً. فمنذ عام 2004، تم اغتيال العديد من الشخصيات السياسية والإعلامية والأمنية، من محاولة اغتيال النائب مروان حمادة، وبعدها اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير/شباط 2005، وما شكّله من زلزال هز البلد وأدى إلى خروج الجيش السوري من لبنان، إلى اغتيال اللواء وسام الحسن والوزير محمد شطح، مروراً باغتيال جورج حاوي وسمير قصير ووليد عيدو وآخرين.

في السنوات الـ11 الأخيرة، عانت بيروت من خضّات أمنية متلاحقة، من أبرزها احتلالها عسكرياً من قبل حزب الله في مايو/أيار 2008. من هنا، يحاول شعار "لائحة البيارتة" شدّ العصب البيروتي، وهو يرمز للعصب السني بشكل آخر، إذ رفعت اللائحة شعار "لتبقى بيروت لأهلها". وإذا كان أهل العاصمة معروفين، فمن هم الذين يريدون مصادرة المدينة؟ الشيعة الآتون من الجنوب والبقاع كيدٍ عاملة رخيصة في بيروت؟ أم أغنياء الشيعة الذين يتمثلون بلائحة الحريري؟ لكن "لائحة البيارتة" تحظى بدعم حركة أمل وحزب الله، وإن كان دعم الأخير غير علني. هل المقصود اللاجئون السوريون الذين بنت سواعد عمالهم بيروت بعد تدميرها؟ لكن تيار المستقبل يعلن دعمه وحمايته لهؤلاء اللاجئين، في وجه المسؤول عن تهجيرهم أي النظام السوري، وإن كان متحالفاً اليوم مع داعمي النظام السوري.

من هم هؤلاء الذين يريدون مصادرة بيروت؟ يأتي الجواب عن هذا السؤال غامضاً. يقول المرشح في هذه اللائحة خليل شقير عبر حسابه على موقع "فيسبوك"، (وأعاد حساب اللائحة على فيسبوك نشر جوابه): "يسوّق من قبل البعض شعار ‫‏بيروت لأهلها على أنه إقصائي، نعيد ونشدد، إيه بيروت لأهلها... لأهلها الكرام، الطيبين، المنفتحين، الذين تعني قيم العائلة عندهم السند والحرص على الأقارب وعلى الجار وعلى ابن الحي. لكنها أيضاً لأهلها اللي فتحوا بابهم للصيداوي والجنوبي والطرابلسي والبقاعي والعكاري والشمالي والكسرواني... ولكل هؤلاء الناس الذين صاروا أهلها. لكل واحد لا يعتبر نفسه غريباً عنها. ايه بيروت لأهلها". ينتهي جواب الرجل. إذاً من هو "الغريب"؟ يقول عيتاني لـ"العربي الجديد"، إنّ "هذا الشعار لم يحصر بيروت بأهلها، بل رفعنا الشعار لأن الأولوية في السكن والعمل في المدينة يجب أن تكون لهم، ونحن نشدد على أن تكون بيروت المدينة الجاذبة لجميع الأطراف يجب أن يكون أهلها مرتاحين".

يتعهّد عيتاني بالعمل على تطوير كل مناطق بيروت. يريد تطوير البنى التحتية، ويرغب في خلق بيئة آمنة وسليمة للعيش والاستثمار. يتحدّث عن ضرورة تأمين مواقف للسيارات وتأهيل الأرصفة والإنارة وحماية ذاكرة المدينة، وتحسين الأزقة القديمة والحفاظ عليها. لكن أحداً لم يقل لأهل بيروت، لماذا لم تقم البلدية السابقة بهذه المشاريع، خصوصاً وأنها مؤلفة من توافق القوى السياسية ذاتها بغطاء الحريري ذاته.

على أي حال، ما يميّز الانتخابات البلدية في بيروت هذه المرة هو وجود البرامج الانتخابية. فقد فرضت لائحة "بيروت مدينتي"، هذا الأمر عبر طرحها برنامجاً طموحاً. لكن الأمر لم يقتصر على البرنامج، بل إن أسلوب التواصل مع الناس في جلسات نقاش مفتوحة يُعدّ نموذجاً جديداً على المدينة، بعيداً عن اللقاءات التقليدية. مرشحو "بيروت مدينتي" والقائمون على حملتهم مجموعة من الأكاديميين والتكنوقراط وأهل الاختصاص لناحية ما تحتاجه العاصمة بحجرها وتنظيمها العمراني وأزمات اكتظاظها ونفاياتاتها وطرقاتها وغلاء عقاراتها والحياة فيها وكارثة قيادة السيارات فيها وانعدام وجود مواقف سيارات...). تُتهم هذه اللائحة بأنها أقرب إلى منظمات المجتمع المدني من الأحزاب السياسية، وهذا صحيح طبعاً. يرى كثيرون أن أهمية "بيروت مدينتي" أنها تقدم، للمرة الأولى ربما في تجارب الانتخابات المحلية، بديلاً حقيقياً عن "محدلة" لائحة الحريري بمعايير واضحة: مناصفة دينية (12 مرشحاً مسلماً و12 مرشحاً مسيحياً). مناصفة أعضائها بين الرجال والنساء. مراعاة تمثيل التنوع المذهبي داخل الطوائف الكبرى (الأقليات اللاتين والأرمن والدروز والأشوريين...). ضمّ مرشحين من ذوي الاحتياجات الخاصة. رفض التمويل السياسي. تقديم مشروع انتخابي إنمائي واضح ومحدّد. فضلاً عن ذلك، تضم اللائحة مرشحين من أصحاب السير الذاتية "الغنية"، من الفنان أحمد قعبور، إلى الناشطة اليسارية فرح قبيسي، التي تعرفها شوارع بيروت، مثلما يعرفها العمال المصروفون تعسفاً من وظائفهم. من دون أن ننسى رئيس تعاونية صيادي الأسماك نجيب الديك (ممثلاً لصيادي الدالية، المرفأ التاريخي المنوي حذفه من الوجود لتحويله إلى مجمع تجاري ضخم) والمخرجة السينمائية نادين لبكي، والصيدلاني يورغي تيروز، وهو الشاب الذي أسس في العام 2010 منظمة "Donner Sans Compter" التي تعمل كوسيط بين المتبرعين بالدم ومن يحتاجون له. واستطاعت المنظمة حتى اليوم استقطاب ما يزيد عن 18000 متبرع، ومكّنت أكثر من ستين ألف مريض من الاستفادة من خدماتها، بالإضافة إلى "أهل الاختصاص" من مهندسين مدنيين (كرئيس اللائحة إبراهيم منيمنة).

وتطرح اللائحة في برنامجها الانتخابي رؤية طموحة لبيروت، إذ تراها "مركزاً ثقافياً واقتصادياً في المنطقة، عاصمة لبنان وبوّابته الرئيسية إلى العالم الخارجي"، وتتصورها "كمدينة حيويّة، نابضة وفعّالة وتولي اهتماماً خاصاً للتداخل الاجتماعي وسهولة التواصل والتنوّع". وتتعهّد اللائحة بتنفيذ عشرة وعود، لعلّ أبرزها موضوع النقل. يشير برنامج اللائحة إلى أن حوالي 70 في المائة من حركة التنقل في بيروت تعتمد اليوم على السيارات الخاصة، وتتحرك أغلبية هذه السيارات خلال ساعات الذروة، بسرعة المشاة، و3 في المائة فقط من حركة التنقل تعتمد على الدراجة الهوائية، والباقي يعتمد على وسائل النقل المشترك. ويحدد البرنامج الهدف خلال 6 سنوات بخفض نسبة الاعتماد على السيارات الخاصة إلى 45 في المائة، ورفع نسبة الاعتماد على المشي أو الدراجة الهوائية إلى 15 في المائة، أما الـ40 في المائة المتبقية فستستقّل وسائل النقل المشترك.


تتنافس في بيروت أربع لوائح، اثنتان منها مكتملتان (24 عضواً مقسمين مناصفة بين المسلمين والمسيحيين). "لائحة البيارتة" يتحالف فيها تيار المستقبل مع التيار الوطني الحرّ (برئاسة النائب ميشال عون)، والقوات اللبنانية (برئاسة سمير جعجع)، والوزير ميشال فرعون، وحزب الطاشناق، وحزب الهانشاك، وحركة أمل، والحزب التقدمي الاشتراكي، والجماعة الإسلامية، وجمعية المشاريع الإسلامية، وحزب الحوار الوطني (برئاسة فؤاد مخزومي)، ودعم غير رسمي من حزب الله، إضافة إلى دعم غير رسمي من الهيئات الاقتصادية، وهو تجمع أكبر تجار المدينة الذين غالباً ما يفرضون قراراتهم بشكل فظ على الحكومات اللبنانية في التوجهات الاقتصادية الكبرى.

عملياً، تبدو هذه اللائحة نسخة بلدية عن حكومة الرئيس تمام سلام، أو المجلس النيابي على الرغم من فشل التجربة الحكومية، والتعطيل المستمر بسبب التناقضات بين أطرافها. بالإضافة إلى اللائحة المكتملة لـ"بيروت مدينتي" التي تضمّ مستقلين، بعضهم كان ناشطاً في صفوف اليسار وقوى 14 آذار، واستطاعت الحصول على دعم تيار مدني في المدينة إلى جانب بعض المعترضين على أداء تيار المستقبل. كما استطاعت أن تفرض وجودها في الشارع المسيحي، خصوصاً أن لا موقف سلبياً منها من قبل القوى الحزبية المسيحية الأساسية، لكن نقطة ضعفها هي في الأوساط الشعبية السنية (وهي الحاسمة طبعاً نظراً للعدد الأكبر لأصوات هذه الطائفة في العاصمة).

ومن المفارقات التي تدعو للسخرية، دعم النائب وليد جنبلاط للائحة "بيروت مدينتي"، واعتباره أن "التحدي الكبير هو أن يكسر المواطن البيروتي حاجز الأحزاب لصالح مدينة بيروت" على الرغم من وجود مرشح له على "لائحة البيارتة". تبدو لائحة "بيروت مدينتي" مشروع المواجهة غير المعلن مع أحداث السابع من أيار 2008. معظم مرشحيها وأبرز من في ماكينتها السياسية، كانوا ضمن مشروع 14 آذار، وابتعدوا عن سياسات الحريري الأخيرة.

كما أعلن "تيار الواقع" في بيروت عن ترشيح لائحة غير مكتملة من 19 شخصاً، 15 منهم مسلمون، للمنافسة في انتخابات بلدية بيروت. ويقول المرشح على اللائحة عبدالله البراج إن وجود 15 مسلماً من أصل 24 يمثّل التوجه النسبي الحقيقي في بيروت التي يتجاوز عدد الناخبين السنة فيها 65 في المائة من مجموع الناخبين.

كما أعلنت حركة "مواطنون ومواطنات في دولة"، ترشيح لائحة غير مكتملة من أربعة أعضاء، وتضم في ما بينها الوزير السابق شربل نحاس. يمثّل نحاس تياراً سياسياً مدنياً قد يكون موازياً لحركة "بيروت مدينتي"، على اعتبار أن الحركتَين جاءتا كإفراز جدّي لـ"الحراك الشعبي" الذي وُلد في بيروت الصيف الماضي بعد أزمة النفايات وتراكمها في الشوارع. إلا أنّ لنحاس طموحاً سياسياً واضحاً، لكونه وزيراً سابقاً محسوباً على النائب ميشال عون وفريق 8 آذار (رغم هويته اليسارية وكونه صديقاً للحزب الشيوعي)، كما يتحالف نحاس في هذه الانتخابات مع قوى من هذا الفريق منها "حركة الشعب" (برئاسة النائب السابق نجاح واكيم) وبدعم منها.

المساهمون