13 نوفمبر 2024
امرأةٌ تغيّر طقوسها
جاء موعدي الأسبوعي لزيارتك، استيقظت مبكّرة كما اعتدت، أدليت ساقي من السرير، وشعور عارم بالنشاط يتملّكني، ولكنّ خصلات شعري التي تدلّت على وجهي ضربت برأسي بخفّة، وكأنها تترفّق بي، أوصلت الحقيقة إلى أن لا ضرورة لهذا الإبكار، فأنتَ قد رحلت.
سحبت قدمي إلى المطبخ، فرأيت قالب الكعك المستدير يرقد في تحفّز على الرفّ الخشبي، وكنت أسحبه بفرح، لأسكب بداخله الخليط الذي يحبّه، وأودعه الفرن مع حرارة قلبي، ولكنّي شعرت، هذا الصباح، بأن القالب المتحفّز قد تراجع بتخاذل في مكانه، فأنت قد رحلت.
لم يكن برّاد المطبخ أكثر برودة من قلبي، وبدا مبرّده العلوي خصوصاً فارغاً، فلم أحتفظ بطعام أعددته في يوم سابق من أجلك، والفراغ الذي رأيته في المبرّد العلوي كان أضيق بكثير من الفراغ الذي أصبح في حياتي، فأنت قد رحلت.
"صلّب الصليب"، وهذا كان مصطلحك، كما هو مصطلح الآباء والأجداد في فلسطين، ويعني أننا يجب أن نستعد لبدء موسم قطاف الزيتون، شجرة فلسطين المباركة، وكنت أتهيّأ لانتقاء حبّات زيتون كبيرة الحجم شهيّة المنظر، تكاد قشرتها تنفجر، بسبب ما اكتنزته من زيت، وكنت تقول عنه إنه دموع شجرة شامخة، طال وقوفها في وجه الظلم والاستبداد، وكنت أراها تشبهك، ولكني لم أنتقِ تلك الحبّات أبداً، كما اعتدت أن أفعل، وكما تفعل كلّ أمّهات فلسطين، حيث ندقّها برفق، ونضيف إليها القليل من الملح والخلّ، ونبدأ في تناولها بعد يومين، فتصبح أشهى من كلّ المقبّلات والمشهيات، وأميرة الأطباق حين ترقد في طبقٍ صغير، وسط الزعتر واللبنة ورقائق خبز الطابون، كلّ بيوت فلسطين تفعل ذلك، وأنا كنت أفعل ذلك، وتلتقي يدي بيدك في الطبق ذاته، ولكني لن أفعل هذا العام، فأنت قد رحلت.
وكنت تستقدم عاملاً متخصصاً ذا خبرة ودراية، فيقطف عناقيد بلح نخلة بيتك، ونبدأ في فرزها فنوزّع العناقيد الحمراء، كلوْن شفتَي بنتٍ بكر، على الأحبة والجيران، ونستبقي العناقيد التي تحوّلت ثمارها إلى رطب، فنصنع منها تمر العجوة، وكنت تساعدني في نزع نوى الرطب من داخل كلّ ثمرة، وتطلب مني أن أعدّ لك مربّى البلح التي تشتهر بإعدادها ربّات البيوت الفلسطينيات، وتوصيني أن أفتّت حبات اللوز، بعد أن فقدت معظم أسنانك، ويصبح ذلك المرطبان الصغير الذي أضع فيه مربّى البلح هو ثروتك، تشتعل في عينيك سعادة، ويزهر في قلبي رضا، لأني قدمت لك ما تحب، ولكني هذا الموسم لن أعدّ العجوة، ولن أصنع مربّى البلح، لأنك قد رحلت.
كنت طفلة مطيعة، حتى وأنا أتجاوز الأربعين من عمري، لأني ابنتك، فأمامك لا أستطيع أن أكون إلا كذلك، وكنت تبدأ باستبدال ملابسك الصيفيّة الخفيفة بملابس خريفيّة طويلة الأكمام، وتخبرني أنك ترتبط بمواعيد دقيقة في حياتك، فمطلع أكتوبر/ تشرين الأول من كلّ عام، هو موعد تغيير الجيش المصري زيّه من زيّ أبيض صيفيّ إلى زيّ أسود خاصّ بالشتاء، وأنت تفعل ذلك مثلهم، وكنت أضحك حتى الثمالة، وأنا أسألك عن سرّ ارتباطك بمصر، على الرغم من أنك لم تزرها منذ سنوات، فتخبرني أنك قد عشت فيها صباك، وتعلّمت في أعرق جامعاتها، وهذا الصنيع ما هو إلا بعض الوفاء لها، ولكني هذا العام لم أبدّل ثيابي الخفيفة مثل طفلة مطيعة، أنا طفلة متمردة حتى على قوانين الطبيعة، أحتمل لسعات البرد الصباحية مع مطلع تشرين، لأنك ببساطة رحلت.
وكنت تحثّني على التهام تفاحة واحدة كلّ صباح، مُردّداً المثل الإنكليزي إن تفاحة واحدة تبعد عنك الطبيب إلى الأبد، وقد داومت على ذلك معك، أملاً في أن نبقى سويّاً، أمّا وبدءاً من اليوم، فسأتناول التفاح لماماً، لأنك قد رحلت.
ليس أكثر ألماً من الفقد، إلا أن تغيّر طقوس حياتك، وأنا اليوم امرأةٌ تحاول تغيير طقوس حياتها، امرأة لم تعشق رجلاً كما عشقت أباها، امرأة دانت بالولاء لمليك قلبها، لكنها اليوم مرغمةٌ على تغيير طقوس حياتها، وهذا أصعب من الفراق، وأشدّ وقعاً من الحزن، فالبوصلة لا تنحرف بسهولة، والقلب لا يغيّر الاتجاه كسيارة جامحة، فأنا أكتشف، بعد مرور العمر، أن الحب ما هو إلا طقوس حياة.
سحبت قدمي إلى المطبخ، فرأيت قالب الكعك المستدير يرقد في تحفّز على الرفّ الخشبي، وكنت أسحبه بفرح، لأسكب بداخله الخليط الذي يحبّه، وأودعه الفرن مع حرارة قلبي، ولكنّي شعرت، هذا الصباح، بأن القالب المتحفّز قد تراجع بتخاذل في مكانه، فأنت قد رحلت.
لم يكن برّاد المطبخ أكثر برودة من قلبي، وبدا مبرّده العلوي خصوصاً فارغاً، فلم أحتفظ بطعام أعددته في يوم سابق من أجلك، والفراغ الذي رأيته في المبرّد العلوي كان أضيق بكثير من الفراغ الذي أصبح في حياتي، فأنت قد رحلت.
"صلّب الصليب"، وهذا كان مصطلحك، كما هو مصطلح الآباء والأجداد في فلسطين، ويعني أننا يجب أن نستعد لبدء موسم قطاف الزيتون، شجرة فلسطين المباركة، وكنت أتهيّأ لانتقاء حبّات زيتون كبيرة الحجم شهيّة المنظر، تكاد قشرتها تنفجر، بسبب ما اكتنزته من زيت، وكنت تقول عنه إنه دموع شجرة شامخة، طال وقوفها في وجه الظلم والاستبداد، وكنت أراها تشبهك، ولكني لم أنتقِ تلك الحبّات أبداً، كما اعتدت أن أفعل، وكما تفعل كلّ أمّهات فلسطين، حيث ندقّها برفق، ونضيف إليها القليل من الملح والخلّ، ونبدأ في تناولها بعد يومين، فتصبح أشهى من كلّ المقبّلات والمشهيات، وأميرة الأطباق حين ترقد في طبقٍ صغير، وسط الزعتر واللبنة ورقائق خبز الطابون، كلّ بيوت فلسطين تفعل ذلك، وأنا كنت أفعل ذلك، وتلتقي يدي بيدك في الطبق ذاته، ولكني لن أفعل هذا العام، فأنت قد رحلت.
وكنت تستقدم عاملاً متخصصاً ذا خبرة ودراية، فيقطف عناقيد بلح نخلة بيتك، ونبدأ في فرزها فنوزّع العناقيد الحمراء، كلوْن شفتَي بنتٍ بكر، على الأحبة والجيران، ونستبقي العناقيد التي تحوّلت ثمارها إلى رطب، فنصنع منها تمر العجوة، وكنت تساعدني في نزع نوى الرطب من داخل كلّ ثمرة، وتطلب مني أن أعدّ لك مربّى البلح التي تشتهر بإعدادها ربّات البيوت الفلسطينيات، وتوصيني أن أفتّت حبات اللوز، بعد أن فقدت معظم أسنانك، ويصبح ذلك المرطبان الصغير الذي أضع فيه مربّى البلح هو ثروتك، تشتعل في عينيك سعادة، ويزهر في قلبي رضا، لأني قدمت لك ما تحب، ولكني هذا الموسم لن أعدّ العجوة، ولن أصنع مربّى البلح، لأنك قد رحلت.
كنت طفلة مطيعة، حتى وأنا أتجاوز الأربعين من عمري، لأني ابنتك، فأمامك لا أستطيع أن أكون إلا كذلك، وكنت تبدأ باستبدال ملابسك الصيفيّة الخفيفة بملابس خريفيّة طويلة الأكمام، وتخبرني أنك ترتبط بمواعيد دقيقة في حياتك، فمطلع أكتوبر/ تشرين الأول من كلّ عام، هو موعد تغيير الجيش المصري زيّه من زيّ أبيض صيفيّ إلى زيّ أسود خاصّ بالشتاء، وأنت تفعل ذلك مثلهم، وكنت أضحك حتى الثمالة، وأنا أسألك عن سرّ ارتباطك بمصر، على الرغم من أنك لم تزرها منذ سنوات، فتخبرني أنك قد عشت فيها صباك، وتعلّمت في أعرق جامعاتها، وهذا الصنيع ما هو إلا بعض الوفاء لها، ولكني هذا العام لم أبدّل ثيابي الخفيفة مثل طفلة مطيعة، أنا طفلة متمردة حتى على قوانين الطبيعة، أحتمل لسعات البرد الصباحية مع مطلع تشرين، لأنك ببساطة رحلت.
وكنت تحثّني على التهام تفاحة واحدة كلّ صباح، مُردّداً المثل الإنكليزي إن تفاحة واحدة تبعد عنك الطبيب إلى الأبد، وقد داومت على ذلك معك، أملاً في أن نبقى سويّاً، أمّا وبدءاً من اليوم، فسأتناول التفاح لماماً، لأنك قد رحلت.
ليس أكثر ألماً من الفقد، إلا أن تغيّر طقوس حياتك، وأنا اليوم امرأةٌ تحاول تغيير طقوس حياتها، امرأة لم تعشق رجلاً كما عشقت أباها، امرأة دانت بالولاء لمليك قلبها، لكنها اليوم مرغمةٌ على تغيير طقوس حياتها، وهذا أصعب من الفراق، وأشدّ وقعاً من الحزن، فالبوصلة لا تنحرف بسهولة، والقلب لا يغيّر الاتجاه كسيارة جامحة، فأنا أكتشف، بعد مرور العمر، أن الحب ما هو إلا طقوس حياة.