مُنح العباقرة امتيازاً يختلف عن الأنبياء الذين تحلّوا بالحكمة والأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة، إضافة إلى ما يُوحى به إليهم من السماء، ما أطلق الروحانية في العالم. بينما سُمح للعباقرة بارتكاب الأخطاء، والغرق في الخطايا. من ناحية فإن لهم جانباً بشرياً لا تؤمن عواقبه، فهم مثل غيرهم، وإن كانوا يتميّزون عنهم بالذكاء المفرط، كرّسوا موهبتهم للبحث والاختراع والابتكار في المختبرات، وفتح ثغرات في جدران التقاليد، إن لم يكن هدمها، وتحدّي المحظورات الناشئة من تكلس الزمن، وإلا فكيف يتطوّر البشر، وتنشأ الحضارات، خاصة أنها عندما تتدهور، تحتاج إلى مؤرخين عباقرة ليرصدوا أسباب هذا الانحطاط.
من حسن الحظ، نادراً ما تستطيع السلطات التحكم بهم، ربما لأنهم أنفسهم لا يستطيعون التحكم بعبقريتهم، وكأن لها آلية لا تتوقف عند حد، وتعمل على غايات لا تدرك بسهولة، وأهداف بعيدة المدى، تُعنى بالمستقبل غير المنظور، فيحيلونه إلى مدى منظور، منطلقين من الواقع المعاش إلى الواقع المتخيل، فيجسّدونه على الأرض. وما آينشتين وإديسون ونيتشه وشوبنهاور ودوستوفسكي إلا من هذه الطينة العملاقة التي تعمل وكأنه لحسابات شياطينها، لا ترضى إلا بالفوز.
صادف العالم الكثيرين منهم، عنيدون لا يتوانون رغم الفشل المرة تلو المرة عن تحقيق فتوحاتهم الكبرى، فالفشل لا يشكل بالنسبة إليهم سوى تجربة في سلسلة تجارب، يستبعدون واحدة ليجربوا الأخرى. وقلّما نصادف عبقرياً لم يحقق شيئاً، ولو كان سلسلة من الأخطاء توفّر على البشرية الوقوع فيها.
على وقع خطى العباقرة، وجد البشر حلولاً لمشاكلهم المستعصية والطارئة، واستشرفوا المستقبل، واخترقوا المجهول، ولولا أنهم سبروا غور الحياة، وقدموا خلاصة أفكارهم لتقدّم الإنسانية، لتحرَّك العالم على وقع شروق الشمس وغروبها، وتحرَّك البشر على وقع غرائزهم. لئلا نبالغ نقول، كان العالم سيتحرّك بشكل أبطأ، والبشر سيعتمدون على عضلاتهم بشكل أكبر.
أرسل الله الأنبياء مع الكثير من الدعم بالكتب السماوية، وترك للعباقرة إكمال مهمة تحسين أحوال البشر دونما فرق بين الأخيار منهم والأشرار والأقل شراً. وأصبحت الاكتشافات مثلما الأديان ملكاً للبشرية. أما كيف تستخدم، فالمؤسف أنها متعددة الاستخدامات، طبعاً مع الفارق، فمن الحسن والأحسن، إلى السيّئ والأسوأ.
لا يشترط في العباقرة أن يكونوا أناساً فاضلين، إذ بينهم مجرمون، يشار إلى عبقريتهم بالذكاء الشيطاني. والعباقرة عندما ينعزلون عن البشر في جحور، ويسلمون أمورهم لغيرهم، يصبحون أكثر عرضة لأن يكونوا أدوات للشر. وبوسعنا تخيّل مجهولين منهم عملوا على اختراع القنبلة الذرية، وبعدها القنابل النووية وسلسلة القنابل والصواريخ الذكية والغبية... ما زالوا يطورون أسلحة ذات فاعلية أكبر وأخطر في القتل، آخذين بالاعتبار ألا يعرف القاتل القتيل، فمن بعد مئات الكيلومترات يستطيع القاتل قتل المئات من دون أن يراهم، ومن دون تمييز، سواء كانوا في اجتماع إرهابي، أو حفلة عرس، أو يحتفلون بعيد ما... فقط بكبسة زر، ويوفرون على القاتل الشعور بالذنب.
تلحّ الإنسانية على العباقرة في تكريس ذكائهم للخير لا للشر، فلا يكونون أداة تدمير للحضارة، وذلك بارتياد الكون، وأعماق البحار، والفضاء، والمثال الأكثر حضوراً الفضاء الافتراضي، ما يشكل المجال الذهبي لازدهار وسائل التواصل بين البشر، لا ابتكار أدوات للهيمنة والتلصص والتنصت.
اعتُبر العباقرة ثروة وطنية وقومية، يحظون برعاية دولهم، عدا الدول المتخلفة تلك التي لا تهتم لقضايا الذكاء، فتضيق بهم وتطردهم إلى الدول التي تستقبلهم على الرحب والسعة. إلا إذا جيّروا ذكاءهم لمطامع الدكتاتور وطموحاته، عندئذ تنحط العبقرية إلى إجرام محض. من حسن الحظ، أن الدكتاتورية بيئة طاردة للعباقرة، ولا تعدم الاستثناءات، وهو أمر وارد في الدول الشمولية، والعجيب الذي لا يمكن تصوّره إلا بالكثير من الاستغراب، كيف لدكتاتور غبي أن يستخدم عالماً عبقرياً؟