اليونان.. صَكُّ سياسة جديدة

14 يوليو 2015

تسيبراس إلى اجتماع أوروبي في بركسيل (يوليو/2015/ا ف ب)

+ الخط -
بلاد الإغريق المشمسة، التي صدَّرت الآلهة والفلسفات إلى كل أنحاء العالم، مفلسة.. هكذا تقول عناوين الصحف.
إنه لأمرٌ ملتبسٌ على العقول غير الاقتصادية أن تَفرغ خزائنُ دولةٍ بحالها من المال. تكتب الصحف إن البنوك لن يكون لديها أية أوراق نقد؛ وقد تقفل أبوابَها، أو تقنن توزيع أوراق البنكنوت الملونة الثمينة. لا نريد تفسيراً أو توضيحاً اقتصادياً يُغرق فهمَنا البسيط بمصطلحات البطالة والناتج القومي والدين العام، بل نريد مرجعاً واضحاً كجمال أفروديت الهيفاء الفاتنة.
تنتمي اليونان إلى تجمع سياسي، ذي بنية اقتصادية متينة، يضم دولاً ذات عراقة اقتصادية، وأسواقاً متينة كألمانيا، ومع ذلك، تتهاوى الدولة الجنوبية تحت دَين كبير لا تقوى على سداده. لا ينفع اليونان قَدُّ أفردويت الأهيف، ولكن، قد ينفعها تراث سوفوكليس السوداوي.. كتب مآسيَ خالدةً أشهرُها إلكترا، لكنه، إلى جانب عمله كاتب مآسٍ، كان رجلَ اقتصادٍ وسياسة، واعتمد على "التقشف" لتجاوز محنة أثينا عقب حروب صقلية لإعادة بناء الجيش. وتبدو كلمة تقشف وكأنها مصير نهائي ينتظر اليونان، فهو يتردد بكثرة في أحاديث المستشارة الألمانية، ويتموقع في جوهر خطة الإنقاذ التي تعتمد على مزيد من الديون، بشرط بَذل مزيد من التقشف وشد الأحزمة على البطون، وكأن أوروبا ترغب في أن تستعيد من اليونان سنوات الرخاء، حين بدأ موسم الاقتراض الكبير في عام 2009، فيما كانت أوروبا تعاني من أزمة العقارات الأميركية التي غَطَّتْ على كل شيء في العالم، وجاء دور اليونان الآن في التضور.
في انتخابات غير تقليدية، فاز حزب "متطرف" باتجاه اليسار، "سيريزا" الذي تشكل من تحالف شيوعيين وناقمين ويساريين غير تقليديين، حزبٌ فريد لا شبيه له في كل بلاد اليورو، وكأنه آت من تأثير الوجع الاقتصادي المتعاظم، وبدأت أصواته الانتخابية ترتفع على وقع تعاظم الأزمة، طردياً، حتى وصل إلى الحكم بوصول الأزمة إلى حافة الإفلاس.
صعد حزب سيريزا الموغل في اليسارية على حساب اليسار التقليدي الذي مثلته، منذ أكثر من نصف قرن، عائلةُ باباندريو وحزب الباسوك الذي تراجع بشكل حاد، مفسحاً المجال لليساريين الجدد الذين يحملون الخطة الأوروبية نفسها، وهي التقشف الذي تريد ألمانيا من اليونان تبنيه. قال سيريزا بصوت ثوري: "لا" للتقشف الذي يأتي من أوروبا، نريد شروطاً أفضل، أو نمارس تقشفاً خاصاً بنا. وأعاد، كما يليق بحزب يساري قارح، الموضوعَ إلى "الشعب"، وطرح سؤالاً مقدمته: أجب بنعم أم لا.
لنا، نحن السوريين، تجارب مرة مع هذا النوع من الأسئلة التي كنا نتعرض لها مرة كل سبع سنوات، تحت يافطة ما كان يسمى "تجديد البيعة"، وهي كلمة توحي بالنتيجة الحتمية للاستفتاء، وتدفع المُسْتَفتى نحو جواب محدد، أما جواب اليونانيين فكان كاسحاً بالمعنى الديمقراطي، لأن "لا" التي تبناها الحزب اليساري نالت أكثر من 60% من الأصوات، ما يعني أن سيريزا أصبح مفوضاً برفض كل ما يأتي من أوروبا واعتماد ما يريده للخروج من النفق.
"أقصى اليسار" هو وضعية سياسية تهوى الشعارات والتلويح بالقبضات واعتماد الحماس، وربما استفزاز الخصوم، والسلوك الذي يتبناه "سيريزا" الذي سيجبر على مزاولة تقشف من النوع "السوفوكليسي"، قد يكون أقسى من التقشف الذي تطلبه ميركل، وهو سينتهي، بشكل حتمي، إلى خروج اليونان من منطقة اليورو والعودة إلى العملة التي صَكّها الإسكندر الأكبر، الدراخما أو الدرهم، وكانت رمزاً لوحدة أثينا الاقتصادية، وقد تُشكل في حال العودة إليها رمزاً لما يريده أقصى اليسار السياسي والاقتصادي. وكأن الجمهور اليوناني، الذي لم تستطع أية قوة أن توقفه عن الإنفاق، وربما التبذير، يريد أن ينتقم لنفسه بالنأي عن دائنيه، وذلك بتبني مواجهة معهم، وهو، في هذه الحالة، بحاجة إلى حلفاء، أو بمعنى آخر، دائنين جدد يرغبون في إقراضه، محاولا ًتأجيل الأزمة إلى أبعد أمد.
دلالات